ثورة البرمجة..والحروب

منذ ما ينوف عن شهر طالعنا موقع (روسيا اليوم) على الفيسبوك بخبر عن دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد، تتمحور حول تحول الصناعة في العالم الغربي إلى استخدام الروبوت وأثر ذلك على سوق العمالة.

توصلت الدراسة إلى أن ما توفره الروبوتات من قدرة تتزايد باضطراد على أداء مهام معقدة كان إنجازها في الماضي حكراً على اليد العاملة البشرية، وأن توجه ثمن الروبوتات للانخفاض بشكل متزايد مع الأيام القادمة سيجعلان من استخدام الروبوت واقعاً عملياً ينافس اليد العاملة البشرية، وهذا ما بدأت ملامحه تظهر للعيان (بحسب الدراسة) من خلال توجه شركات عملاقة ومنشآت صناعية ضخمة للتحول لتشغيل معاملها بالروبوتات بشكل كامل وكلي بديلاً عن العمال.

وقد بينت الدراسة أن الجداول الحسابية والإحصائية الحالية تنبئ بإلغاء 47 % من فرص العمل التي تشغلها اليد العاملة الإنسانية حالياً لصالح استخدام الروبوتات، وذلك بحلول عام 2025.

في حقيقة الأمر فإن الباحث عن دراسات اقتصادية تخص هذا الموضوع سيجد أن استشراف مستقبل العمالة البشرية في ظل دخول الروبوت على خط المنافسة ليس وليد اليوم على الإطلاق، إنما يعود إلى عقدين سابقين من الزمن على الأقل.

قد تبدو هذه الدراسة مثيرة للدهشة أو الاهتمام لا أكثر عند القارئ العادي. لكن، في الواقع فإنه مهما كان هامش الخطأ والارتياب في أرقام وتوقعات هذه الدراسة ومثيلاتها, كبيراً أو صغيراً, يجب أن تثير هذه الأرقام الكثير من التساؤلات عن المستقبل القاتم الذي يتهيأ لطبقات المجتمع الوسطى والفقيرة خلال العقود القادمة.

بالنظر لنتائج هذه الدراسة المنوه عنها فإننا سنستشرف ما كان الفكر الماركسي قد أسهب في شرحه من نهم رأس المال لثالوث الأسواق المستهلكة الواسعة والأيدي العاملة الرخيصة ومصادر الطاقة والمواد الخام الرخيصة، هذا الثالوث الذي تحقق بداية في استغلال واستعباد شرائح واسعة من العالم الغربي ومن ثم تحقق باستعمار واحتلال (بمختلف أشكاله) دول العالم النامي والدول الفقيرة.

فمن ناحية أولى، إن التوسع الهائل المتوقع في عمالة الروبوت وما سينتج عنه من إزاحة لشرائح واسعة من الطبقات العاملة للمجتمعات الغربية، لا بد أن يدفع هذه الطبقات لمزيد من التهميش الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي مما سيخفض قدرتها الشرائية ويقلص الأسواق الاستهلاكية في العالم الغربي، وهذا ما سيرفع احتمالية حدوث القلاقل الطبقية والاجتماعية في مكونات المجتمع الرأسمالي.

ومن ناحية ثانية فإن تقلص نفقات الروبوت مقارنة مع الإنسان من حيث أن الروبوت لن يحتاج لتأمين صحي ولن يطالب براتب تقاعدي ولا حتى بأجر أسبوعي، لن يطالب باستراحة للغداء، لن يطالب بثماني ساعات للنوم يومياً، لن يطلب تعويضاً عن إصابة في العمل أو إجازة صحية أو إجازة سنوية مدفوعة الأجر،
كل هذا سيدفع بسقف الإنتاج وهامش الربح للزيادة مما سيدفع لمزيد من تغول رأس المال وأدواته من العناصر المحركة للعالم الإمبريالي ومما سيدفع بمزيد من الطلب على المواد الخام والطاقة.
أما ثالثاً فإن الشرائح العاملة الواسعة التي ستخسر المنافسة أمام الروبوتات وبالتالي ستفقد عملها لن تدفع الضرائب(ضريبة الدخل) لحكوماتها، لا بل ستطالب بمزايا الضمان الاجتماعي لتسد رمقها، وستطالب بفاتورة هائلة للضمان الصحي، مما سيهدد الحكومات بالإفلاس.

في ضوء ما سبق من تبعات بالغة الضخامة على حكومات واقتصادات العالم الغربي عموماً، فإنه بالمنطق السليم, من المؤكد أن تتمسك الحكومات  بتحالفاتها المقدسة مع رأس المال والعمل معه لدخول دورة جديدة من الاستعمار القديم الحديث، فليس أفضل  لهذا الحلف من الحروب لإلهاء جموع الجائعين والمسحوقين واليائسين والعاطلين عن مشكلاتهم!!
هل هناك أفضل من إرسالهم للموت في بلاد غريبة بعيدة لا يعرفون عنها شيئاً. ليس هناك أفضل من حرب مبتكرة تنسجم مع ثورة الاتصالات التي نعيشها، وتنسجم مع نشوء عالم افتراضي تم استغلاله وتجييره بسرعة لصالح البروباغاندا الإمبريالية،( لعل الحرب التي نعيشها الآن على سورية أبرز مثال على الدور الذي بات العالم الافتراضي يلعبه). ولعل التاجر الممثل السياسي في آن معا ترامب أبرز مثال على التوجه نحو مزيد من الحروب والمواجهات للاستحواذ على النفط   وعموم الخامات وإلهاء الطبقات المسحوقة عن مأساة وجودها في عالم الرفاه الإمبريالي.

فلتتحضر المجاميع البشرية في كل بلدان العالم النامي لمزيد من الحروب والتسلط والاستعباد.

يبقى أن نتذكر أن الفكر والوعي هما السلاح الأمضى والحصن المنيع. أين نحن من الفكر والوعي؟! هذا هو السؤال، وهذه هي مشكلتنا الحقيقية.

العدد 1105 - 01/5/2024