لماذا يكون همّ البنات للممات ؟!

(همّ البنات للممات) مقولة شعبية شائعة في مجتمعاتنا الشرقية(إسلامية- عربية) وغالباً ما نجد أن المرأة ذاتها هي من تتبنى هذه المقولة السلبية في زمن اتجهت فيه البنت للعلم والعمل من أوسع أبوابهما، وارتقت إلى مناصب سياسية ودبلوماسية عليا في كثير من دول هذه المجتمعات. وما يدفع المرأة ذاتها لتبنّي هذه الفكرة الشائعة والخاطئة عدة أمور هامة لخّصتها سيدة مريضة في المشفى وترعاها ابنتها من خلال قولها:

(إن هم البنات للممات، هي همّ عندما تولد، وخاصّة إذا لم يكن هناك ذكر، وهمّ لأسرتها إذا لم تتزوج، وهي همّ إذا تزوجت ولم تُنجب، وهمٌّ آخر إذا لم تُنجب الذكر.. إذاً هي قلقة خائفة غير مستقرة، فقرارها حتى الآن ليس بيدها، بل تتحكم بها عادات وتقاليد وعقليات ضاغطة…).

إن كل هذه الهموم التي تُسيّج حياة الفتاة منذ أن ترى عيناها النور ما هي إلاّ نتيجة لموروث قيمي اجتماعي سائد، يُعزز مسألة التمييز على أساس الجنس( الجندر) لعدة أسباب هي في الواقع:

1- أن المرأة ذاتها تساهم بشكل كبير في إعادة إنتاج بعض هذه المنظومة القيمية وتعمل على تعزيز اضطهادها مجدداً، باتباعها أساليب تربوية تعتمد التمييز بين أبنائها على أساس الجنس، مُتغافلة أو مُتناسية أنها عانت وهي فتاة من هذا التمييز، وكأنها تفعل ذلك، إمّا انتقاماً لما أصابها من ظلم وتمييز تعكسه حالة مرضية تطول أبناءها لاحقاً، أو أن تأثير التربية أكبر بكثير من حجم المعاناة ومحاولة تبديل المفاهيم وطرق التعامل فيما بعد، بحيث تقوم بمهام التربية بشكل تلقائي- تقليدي دونما الاستفادة من معاناتها السابقة ودون إيجاد بدائل تعزز إنسانية الأنثى لديها.

2- إن قلق المرأة الدائم على مصيرها ناجم عن موروث (اجتماعي- ديني – شرعي) يُبيح تعدد الزوجات والطلاق- في حال عدم إنجاب الذكر- والطلاق التعسفي القائم على إيجاد أعذار وحجج واهية- قد تكون أخلاقية ظاهرياً- إضافة إلى مفهوم المهر الذي يتمُّ التعامل فيه على أساس ظاهرهُ الحفاظ على حقوق المرأة، لكنه في الواقع قائم على قيمة مادية لا تتناسب مع التفاوت الحاصل لواقع القيمة النقدية ما بين زمن عقد الزواج، وزمن وقوع الطلاق، هذا إذا لم يحدث التلاعب به عند دفعه لها- فأين صون الحقوق في هذه الحالة..؟؟- لذا يُفترض إعادة النظر بمفهوم المهر من أساسه، وإيجاد طريقة تتلاءم مع تطور الحياة والمجتمعات لمفهوم الزواج و(صون الحقوق..!!).

3- تعزيز المفاهيم الاجتماعية القيمية لمسألة اعتبار الذكر امتداداً للنسب، وعدم وجوده يعني قبول المرأة زوجة ثانية في حياة زوجها لأجل هذا الامتداد- وربما هي من تسعى لهذا الزواج.!- حتى لا تجد نفسها في الشارع يوماً، وهذا ينمُّ عن جهل واضح ببعض المسائل العلمية في المجتمع ولدى الزوجين، وهي أن مسألة تحديد نوعية الجنين تتعلق بالرجل حصراً ولا علاقة للمرأة بها. فأيّ امتداد هذا في زمنٍ أصبحت فيه الفتاة نوعاً ما مستقلة اقتصادياً تحمل شهادات عليا- مُدوّن عليها اسم الأب-  هذا الامتداد أعتقد أنه جاء من الموروث الديني والاجتماعي على حدٍّ سواء، من خلال اعتبار أبناء البنت(أسباط) وليسوا أحفاداً كما أولاد الذكر عملاً بتسمية الحسن والحسين أبناء فاطمة الزهراء ابنة الرسول (سبطَي رسول الله) وليسا حفيديه، وبالتالي يتم التمييز أيضاً على مستوى الأحفاد لاحقاً..!!

4- مسألة أخرى تكمن وراء قلق المرأة وتبنيها مسألة التمييز وتفضيلها للذكر، هي بعض ثغرات قانوني الأحوال الشخصية والعقوبات وسواهما من قوانين تُعزز هذا التمييز، فمثلاً مما جاء على لسان تلك السيدة أن وجود الذكر يقطع الإرث، وغيابه يعطي الفرصة لأطماع الورثة في حق ليس لهم، وذلك فقط لعدم وجود الذكر(هل هذا معقول..؟) في الوقت الذي كانت الزوجة تُعاني مع زوجها من أجل جمع ثروة معينة والأهل بعيدون تماماً عن معاناتهم..؟ هذا بحدِّ ذاته مصدر قلق للمرأة ولبناتها في حال وفاة الزوج، ومصدر داعم لتعزيز مسألة التمييز.

5- أما حينما نقول إن الذكر ضامن اجتماعي للأبوين في مرحلة الشيخوخة مادياً ومعنوياً، مُلزم من قبل القانون بذلك، في الوقت الذي تقوم فيه الفتاة بالمسؤولية شبه التامّة نحو والديها، ويبقى الذكر بعيداً بحكم سفره أو مشاغله، التي تبررها الأم ذاتها، أو حتى طبيعة زوجته لاحقاً، التي قد تفرض عليه ربما عقوق والديه، فإن ضمانته الاجتماعية( كما حال هذه السيدة المريضة ولم يزرها أبناؤها الذكور إلاّ لماماً، بينما بناتها هنّ اللواتي يقمن برعايتها مادياً ومعنوياً) لا معنى لها على أرض الواقع- وقدّمت الدراما التلفزيونية قصصاً لا حصر لها عن هذه الحالة.

6- وحين تقول:(فقرارها حتى الآن ليس بيدها، بل تتحكم بها عادات وتقاليد وعقليات ضاغطة…)، فهذه أيضاً مردّها القانون الذي يفرض على المرأة وصايةً ذكورية حتى لو كانت في قمة الهرم السلطوي أو الوظيفي فإنها لا تملك زمام أمورها منفردة، فمثلاً لا تستطيع السفر دون موافقة الزوج قانونياً، أو قد يكون الابن الذكر وكيلها لو أرادت الزواج أو القيام بمعاملات قانونية في حال وفاة الأب، أو قد يكون هذا الذكر أخاً أصغر منها بأعوام عديدة، وربما غير متعلم، لكن مكانته الذكورية تفرض وصايته عليها، فهل في هذا شيء من المنطق والعقل..؟! وهذا أحد أهم الأسباب التي تدفع بالفتاة للخوف من العنوسة، إذ إنها ستبقى تحت وصاية هذا الأخ وأولاده لاحقاً (رواية- الساقطة- للأديبة هيفاء بيطار).

فلو تخلّصنا من بعض الثغرات الموجودة في القانون وأعيدت صياغته وتشريعه بشكل يلائم التطور الإنساني لما عانت المرأة القلق والخوف.

لكن أحياناً تبقى سيادة العرف والتقليد في بعض جوانب الحياة أقوى بكثير من سيادة القانون، مثل المرسوم الذي ينص على عدم إعطاء الأم العاملة إجازة أمومة عن الولد الرابع، والهدف منه باعتقادي هو الحد من الإنجاب أو تنظيم النسل.. لكن هل فعلاً وصل المرسوم إلى غايته المنشودة..؟ لا أعتقد، بدليل أن النساء العاملات ينجبن الرابع والخامس ربما من أجل مجيء الذكر في بعض الأحيان، وفي بعضها الآخر لعدم القناعة بتحديد النسل..!!

هنا، وبالدرجة الأولى يقع عاتق التغيير بشكل رئيسي في منظومة المفاهيم التمييزية على المرأة الأم، مربّيةً وصانعة أجيال، لأن التربية أساسية في إحداث التغييرات المجتمعية كافة. إضافة إلى دور الجمعيات النسائية والإعلام والمثقفين والحقوقيين وسعيها لإعادة النظر بالكثير من القوانين والتشريعات التي تُعزز مسألة التمييز الجنسي، وأيضاً القيام بحملات توعية للحدّ من الآثار السلبية للأعراف والتقاليد التي تعزز هذا المفهوم.

العدد 1105 - 01/5/2024