التجربة والإبداع

 

ثمة من يعتقد أن الإبداع لابد له من معاناة وتجربة قاسية، تشكل مادة أولية له، يقوم المبدع بإنضاجها عبر ذاته الإبداعية لتخرج منها في تشكيل فني جديد، يختلف نوعياً عن خاماتها البكر.

لكن لو قدّم لنا كاتب ما تجربة معيشة، كما هي في الواقع، لقلنا له ما حاجتنا إلى هذه التجربة، إذا قدمت نسخة مكرورة دون إضافة من وجدان الكاتب تعكس رؤيته للعالم وللحياة؟

قال غوته عن روايته (قرابة انتخابية): لم أكتب فيها حرفاً لم أعشه، لكني لم أكتبه كما عشته.. هنا تكمن الإضافة التي تساهم في رفع الواقع إلى مستويات الفن.

التجربة ضرورية إلا أنها وحدها لا تكفي، فالموهبة الإبداعية هي المعيار الحاسم في عملية الإبداع.

كم رجلاً دخل السجن وتجرّع عذاباته، وكم شاباً أحبّ، فهل كتبوا رواية عن السجن كما أنتج دستويوفسكي (العالم السفلي)، أو سطروا وأنشدوا (آلام فارتر) لغوته؟

التجربة المعيشة وحدها، إذاً، لا تخلق عملاً إبداعياً يحتاج إلى الموهبة، فإذا أضفنا تجربة الخلق الفني، وهي تجربة فريدة من نوعها لا يعيشها إلا المبدعون، وهي احتراق حقيقي وبحث عن أشكال فنية يسكب فيها المبدع تجربته المعيشة، بعد إعادة تخيّلها وتطهيرها من العوالق التي تشوبها، تدخل فرن التجربة الإبداعية لتنصهر ويعاد تكوينها في أشكال فنية تحددها ثقافة الأديب وموهبته..

ولكن هناك من يقول: لا بد للمبدع من التجربة، فكيف يمكن لكاتب أن يتحدث عن مشاعر المحب إذا لم يحب، كيف له أن ينقل مشاعر الفقراء دون أن يعيش الفقر؟!

كم (روما) نحتاج أن نحرق لنكتب قصيدة شعر؟

ضعاف الموهبة يحاولون تأكيد أهمية المعيش، متناسين أن الإبداع أصلاً عمل تخيلي، تنسجه مخيلة الفنان التي لا تستطيع العمل إلا إذا كانت لصيقة الصلة بالواقع.

محصلة الإبداع تفاعل خلاق بين المعيش والمتخيل، فلا التجربة كخامة أولية تقدم فناً، ولا التخيل المعزول عن الواقع يصنع فناً ويحمل وهجه وحرارته، فالأعمال الناجحة التي تترك تأثيراً على وجدان المتلقّين هي تلك الأعمال التي تخاطب ما يحسّونه وما يعتلج في صدورهم، وكأنهم يطالعون ما اختبروه وعانوه في حياتهم اليومية، لأن الأدب تخاطُب بين روحين: المبدع والمتلقي، فإذا فُقدت أواصر الاتصال والتواصل، ضاع الهدف من الرسالة وتجمدت العلاقة بين المبدع والمتلقي.

الأعمال الفنية الناجحة هي تلك التي، عندما نطالعها، نشعر بأنها تتحدث عنا، إلا أنها قابلة للتعميم والنمذجة، فهي خاصة بمقدار ما هي عامة.

لا التجربة وحدها كفيلة بالإبداع، ولا إبداع لا يستند إلى تجربة.. تبقى الأهمية الفاصلة والمحددة كامنة في التجربة الإبداعية، فيما يرفع الواقع المعيش إلى فن من خلال استخدام الأدوات والتقانات التي تميز الأجناس الأدبية.

العدد 1105 - 01/5/2024