ملتقيات دمشق الثقافية: الاستمرارية والاستجابة

 يمكن للمراقب أو المتابع للشأن الثقافي لا سيما في تجليات وحراك الثقافة أن يقف على غير دالة لملتقيات دمشق الثقافية منذ انطلاقتها ووصولها  إلى الدورة السادسة، ذلك أن التحقيب لهذا الحراك وبتراكم مرجعياته المؤسسة من جديد للمشهد الثقافي السوري،
والتي تذهب كما العناوين التي اختيرت لها  إلى إنتاج أسئلة شديدة الأهمية حول الثقافة وأدوارها، في سياق الاستشراف والفعل وخلاصة هذه الأسئلة وهي غير منتهية بطبيعة الحال ما يتعلق بالمشترك الوطني والإبداعي، وكيف له أن يكون جامعاً وموحداً لأطياف السوريين دون استثناء،
وذلك عبر إعادة الاعتبار بدءاً للذاكرة الوطنية السورية وأعلامها واتجاهاتها المؤسسة في الوعي الفردي والجمعي الثقافي السوري.

هي أكثر من ظاهرة إذ تحيلنا  إلى القول  إلى أن هذا الحدث الثقافي الذي أشرف عليه نخبة من المثقفين والكتاب، وأطلقه الأستاذ حمود الموسى مدير ثقافة دمشق، ليكون حالة معرفية بامتياز تذهب  إلى ذلك المشترك في الفضاء الوطني والثقافي والإنساني السوري،
وتستدعي له تلك الحوامل الموضوعية من البحث وتسليط الضوء،
انحيازاً للقيمة وإنتاجاً لها بآن، وهذا الحدث السوري بامتياز والذي انفتح على فضاء التلقي والأسئلة وإعادة النظر لمرجعيات الثقافة وحواملها ومؤسسيها وأعلامها، كما دللت على ذلك الدورات الست السابقة، مع ذلك الغنى من التنوع والانفتاح في المشهد الثقافي على مستوى السرديات والتشكيل والفكر والسينما والشعر واتجاهات الأجيال المبدعة،
ومحاولات التقاط حساسياتها الدالة بما تعنيه بأفعال التراكم في المشهد الثقافي، والانحياز للتجربة بمكوناتها ومدلولاتها، هو الانحياز للقيمة التي ينتجها الوعي الجمعي الثقافي السوري، إن تعبيرات وتجليات الثقافة السورية في ذلك الفضاء المفتوح والتي وجدت من متلقيها الإصغاء بكامل الحواس والمتابعة الدؤوبة لها،
ليعني فيما يعنيه تعطش الشارع السوري الثقافي لأفعال ثقافية تحرر الثقافة من السكون والركود، وتفتح في فضاءاتها تلك الأسئلة النوعية، والأدل هي القيم الحوارية في بيت الثقافة وتحت سقف الوطن.

فالمشترك الذي نذهب إليه جميعاً بأصالة التفكير، وتنوع مرجعياته هو دالة الارتقاء، والحراك على مستوى الفكر النقدي، وتفعيل أدوار الثقافة باستدعاء تلك العناوين التي اختيرت على مستوى الأسماء والتجارب في الذاكرة الثقافية السورية،
تأصيلاً لها وانفتاحاً دلالياً لها فيما تعنيه بمستقبل الثقافة، والتقاء أجيال المبدعين لأن ذلك كله إن دل على شيء فإنما يدل على تعبيرات الهوية الثقافية في مواجهة التحديات الكبرى التي تستهدف سورية تاريخاً وحضارةً وإنساناً ومكونات، فهي من تختار سبل الدفاع الذكي عنها، عبر اجتراح طرائق التفكير المولدة ومخاطبة الذائقة لنصل  إلى فرح المعنى،
الأمر الذي وجد الكثير من الحفاوة الإعلامية بوسائلها المختلفة، والأدل نبض الشارع الثقافي وحماسته لتلك الفعاليات، التي شكلت في مساءات دمشق واحة فكرية بامتياز، وبما تصادى بها من آراء كان هاجسها الأصيل، هو الشبيه المختلف، لأنه في حقيقته هو صورة الثقافة المنشودة لطالما كان القارئ هو أفق الكاتب، وبمعنى آخر هو أفق الباحث عن الحقيقة،
كما تجلت في المدونات السورية الإبداعية المختلفة، إذ إن سؤال الثقافة الكبير وفي استحقاقات اللحظة السورية، لا سيما على المستوى الثقافي الأشد دلالة، بتعبيرات الهوية والكينونة وفحص ما هو قار في هذه الثقافة وانفتاحاً به على هوى متغير دون أن تفقد الثوابت قيمتها وجوهرها،
لطالما ظل المثقف وبمعايير الثقافة الوطنية هو الأقدر، ليس على الإجابة على الأسئلة الراهنة فقط، وإنما اجتراح الأسئلة الضرورية والهامة والحاسمة، والتي تحاكي الواقع وتتجاوزه وصولاً إلى واقع جديد متجدد يليق بسورية المتجددة.

وقد يجهر عنوان الملتقى الأخير فيما يخص الإحاطة بالمبدع الكبير الأديب وليد إخلاصي، الوحدة بالتنوع بحقل من الدلالات، معاينة ومقاربة بتجربة مزجت بين الأجناس الأدبية وسبرت أغوار الإنسان الذي يعيش في القاع، ويواجه أشكالاً مختلفة من عوالم الفساد والانحلال،
ومضت بأسلوب التجديد والتجريب، فضلاً عن استبطان عوالم الإنسان، بحثاً عن شرطه الإنساني، وعلائقه الذاتية والموضوعية بوصفه مفكراً وروائياً، إن الوقوف على تعدد الأجناس الإبداعية عند إخلاصي تستدعي دراسة نظرية لها جانب تطبيقي، وإن هذه الأجناس تتقارب بتقارب موضوعاتها ويقود ذلك  إلى تعدد الشخصيات وتعدد الأمكنة، وهذا يعكس حالة الغنى المعرفي والنتاج الإبداعي الملون، ذلك ما أثاره المنتدون في مقاربة عوالم وليد إخلاصي،
وهكذا يحيلنا هذا المثال  إلى ما سبق من ندوات تنوعت ألوانها لتتراكم في استراتيجية الثقافة المنشودة، الهادفة  إلى التعدد والتنوع، كما هي الهوية الثقافية السورية، التي تحمل في كثافتها معنى الوطن، وتضافر نسيجه الوطني والإبداعي، في تجليات الثقافة السورية المضادة للظلام والجهل صوب النور والنهوض، مجتمعياً وفكرياً.

وبذلك تكمن أهمية استدعاء الأسئلة الثقافية وأدوارها انتصاراً لشرطها المستحق في الوعي وتأسيس الوعي، المضاد (لشقاء الوعي وكي الوعي) الذي يراد منه تشظية الهوية في زمن تُستنفر فيه الحاجة إلى الثقافة كي تليق بسورية المتجددة.

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024