الاغتراب في العصر الراهن.. ومستقبل الإنسان

كان الإنسان المبكر جزءاً من الطبيعة التي يرتبط بها أشد الارتباط، ثم تراجعت هذه الرابطة بتطور الحياة الحضرية وتقدمها، ونشأة المجتمع الصناعي، وتدهور المجتمع الرعوي والزراعي، حيث يرتبط الإنسان بالأرض، ولقد أدى ذلك إلى ظهور أشكال غريبة من الاغتراب، أشار الماركسيون إلى أحدها وهو الاغتراب في العمل.. ثم تفاقمت الأزمة بالانفصال الكامل بين العمل اليدوي والعمل الذهني على ما هو عليه الحال الآن.. فبالرغم من كل التقدم العلمي والتكنولوجي، ظل المجتمع الإنساني عرضة لبعض القوى المناوئة، التي لا يستطيع التحكم فيها، وتثير قلقه حول المستقبل، وتفرض عليه حالة من اللايقين سياسياً واقتصادياً، وعدم الثقة في الذات والقدرات والأهداف والنتائج، وفي مؤسسات المجتمع ونظمه، وبضمنها أنماط القيم الأخلاقية والمعتقدات، وكلها أزمات لايزال العلم عاجزاً عن حلها.

لقد بينت الكثير من الكتابات الأدبية أن الاغتراب ظاهرة تتخذ أشكالاً مختلفة تكلم عن بعضها المفكرون الماركسيون بوجه خاص، مثلما تتبّعها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرهم في الثقافات والمجتمعات المختلفة، وبضمن ذلك دول العالم الثالث والمجتمعات القبلية التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، والتي عرف مثقفوها الاغتراب، ولكن بالرغم من التفاوت والتباين في المواقف فإنها تشترك في خصائص وملامح معينة يمكن رصدها بسهولة لدى الفرد والجماعة..

فالمفهوم يشير إلى أمور معينة بالذات، مثل الانسلاخ عن المجتمع والعزلة والانعزال والعجز عن التلاؤم والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع، واللامبالاة وعدم الشعور بالانتماء، بل وأيضاً انعدام الإحساس بالحياة، إلى جانب الانطواء على الذات والتنكر للمشاعر والعواطف الذاتية، والمعاناة من عذاب الوحدة، والعجز عن التواصل مع الآخرين والتعامل معهم، وصعوبة فهم المجتمع الذي يعيش فيه، أو صعوبة تقبّله.

إن الاغتراب ليس مجرد حالة مرتبطة بمجتمع معين أو تنظيم اجتماعي واقتصادي محدد بالذات، وإنما هو ظاهرة يمكن رصدها في كل أنماط الحياة الاجتماعية، حين تتوافر شروط وظروف معينة، كما أن شدة هذه الظاهرة ومدى شيوعها تختلف باختلاف الثقافات والأوضاع الاجتماعية.
وعلى الرغم من كل ما أحرزه العلم والتكنولوجيا من تقدم وازدهار، فإن ذلك لم يفلح في القضاء على تلك اللعنة، بل ربما يكون قد أسهم في استفحالها وانتشارها وظهور أشكال جديدة قد تختلف في مظهرها وتجلياتها الظاهرية عن المظاهر التي سجلها الفكر الماركسي حين تناول ظاهرة الاغتراب في العمل في المجتمع الصناعي الرأسمالي، أو كما سجلتها العديد من الأعمال الأدبية، بل وقد تكون أشد منها وطأة على المقومات الإنسانية المألوفة..

ذلك أن العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الـ21 شهدت ومازالت تشهد حتى الآن تغيرات واسعة..
تتمثل بأقوى صورها في امتداد تيارات العولمة إلى مختلف دول العالم، وفي التغيرات والتطورات الجذرية الهائلة التي طرأت على وسائل وأساليب الاتصال والتواصل الإلكتروني عن طريق الإنترنت بوجه خاص..
وقد أسهمت هذه التغيرات والتطورات في القضاء إلى حد كبير على العلاقات المباشرة بين الناس حتى داخل العائلة الواحدة، واستبدلت بها علاقات لا شخصانية على نطاق واسع جداً بين أشخاص مجهولين تماماً بعضهم عن بعض، كما هو الحال بالنسبة لمستخدمي الإنترنت والشبكات الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك.

إن هذه الشبكات أدت إلى حدوث اغتراب بين من يقضي الواقع والمنطق قيام علاقات حقيقية قوية بينهم من ناحية، وخلق علاقات تعارف وتقارب فكري بين أغراب متباعدين من خلال الفضاء الافتراضي من الناحية الأخرى، مما يعني انفصال الشخص أو انعزاله وانسلاخه عن مجتمعه المباشر الطبيعي، والتحاقه أو انضمامه إلى مجتمع افتراضي لا ينتمي إليه على المستوى الواقعي الملموس. وهذه مفارقة تمثل صورة رمزية متطورة من الحياة تحت سطح الأرض التي تكلم عنها باقتدار ديستوفسكي.

مشكلات التدفق المعلوماتي

لقد لعبت وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة دوراً كبيراً في تغيير أساليب التفكير وأنماط المشاعر الخاصة بين الناس وطرق التعبير عنها.
وبالرغم من أنها وفرت إمكانات التبادل الفكري وتداول المعلومات بسهولة وسرعة فائقة بين أطراف متباعدة تنتشر حول العالم، بحيث يمكن اعتبار الشخص مواطناً عالمياً في هذه الحدود المعلوماتية، فإنها قضت على العلاقات المباشرة أو علاقات وجهاً لوجه داخل المحيط المباشر الذي يرتبط المرء به..
وتذهب بعض الكتابات إلى أن الأشخاص الذين يبالغون في الارتباط بشدة إلى حد الإدمان بهذه الوسائل، وبخاصة الإنترنت، كثيراً ما يفتقدون الشعور بما يدور حولهم، ويبتعدون عن المشاركة مع غيرهم في كثير من الأمور الحياتية العادية، ويفتقدون روح التعاطف مع الآخرين.

بل كثيراً ما يكون التدفق المعلوماتي هو ذاته مصدر مشكلات وصعوبات يواجهها الفرد حين يتعلق الأمر باختيار وانتقاء المعلومات التي تناسب أهدافه، واستبعاد ما دون ذلك..

فالأوضاع والظروف التي تحيط بالشخص في المجتمع المعاصر أصبحت على درجة عالية من التنوع والتشابك والتعقيد،
كما أن شروطها تتعارض وتتضارب وتتناقض فيما بينها، بحيث يكاد الشخص لا يعرف كيف يتعامل معها أو ماذا يختار.. فكما يعاني العامل في المجتمع الصناعي الرأسمالي الاغتراب إزاء الآلة التي يعمل عليها، يعاني المرء في مجتمع المعرفة الحالي الاغتراب إزاء ذلك التدفق المعلوماتي الهائل الذي يكاد لا تحدّه حدود.

أقسى حالات الاغتراب

وهكذا نجد أن أساليب الاتصال والتواصل الحديثة هي أداة للعزلة الاجتماعية، بالرغم مما قد يبدو في ذلك من تناقض، بل إن هذه العزلة عن الوسط الاجتماعي المباشر تتفاقم بحيث يكاد المرء لا يعرف نفسه وأهدافه أو يتوافق مع ذاته.. وهذه بطبيعة الحال هي أقسى حالات الاغتراب عن الذات.

ويبدو أن الاغتراب عن الذات وانعدام التلاؤم أو التعايش معها في سلام واطمئنان أصبح شرطاً من شروط الحياة الحديثة التي فرضتها على الإنسان المعاصر سياسة العولمة وثورة تكنولوجيا المعلومات التي كثيراً ما تؤدي إلى انعدام المعنى والهدف من الحياة،بعد أن خلت هذه الحياة من العلاقات الإنسانية المباشرة والحميمة وحلت محلها العلاقات اللاشخصانية..
وقد بيّن أحد الاستبيانات التي أجريت في الولايات المتحدة عام 2011 وجود علاقات تلازم بين طول الفترة التي يمضيها الشخص أمام الكمبيوتر والإنترنت، وكثافة الشعور بالاكتئاب والوحدة والعزلة، بل وقد يؤدي إدمان الارتباط بالفضاء الافتراضي إلى اغتراب الشخص عن جسمه وفقدانه الإحساس به وبوجوده هو ذاته ككيان متكامل.. ولقد أثيرت بعض الاعتراضات والاحتجاجات على تلك النتائج المفزعة.

لقد أصبحت الحياة الاجتماعية المعاصرة سلسلة من الحلقات اللاشخصانية الخالية من المعنى، والتي يشعر فيها المرء في كثير من الأحيان أنه مجرد (شيء) وليس كائناً بشرياً له آدميته ومشاعره وأفكاره الجديرة بالاهتمام،
ولكن إذا كان المجتمع المعاصر كنظام لا شخصاني يبدي اللامبالاة إزاء الفرد، وبخاصة الذي يتمسك بقيمه وبأسلوب حياته وأفكاره الخاصة المتمايزة، فإن ذلك الفرد يرفض من جانبه الانصياع لما لا يتفق مع فكره وعقله، فالاغتراب عملية رفض متبادل، ويبدو أن هذه هي سمة الحياة المعاصرة في عالم الرأسمال التي تقود الإنسان نحو مستقبل اغترابي.

مجالات الاغتراب

تتنوع مظاهر الاغتراب الجديد ومجالاته تمشّياً مع أوضاع الحياة المعاصرة المعقدة المتقلبة، وأصبحنا نجد من العلماء من يتحدث عن الاغتراب عن البيئة، كما يتمثل في العلاقة المتأزمة بين الإنسان والظروف البيئية واعتداء الإنسان على البيئة من ناحية، ورد الفعل المعادي من البيئة كما يظهر في الاحتباس الحراري وثورات الطبيعة المتلاحقة، كما نجد من يتكلم بكثرة عن الاغتراب في نوعية الحياة نتيجة لازدياد وطأة العولمة وقياس مكانة الإنسان المعاصر بمعايير مجتمع الاستهلاك، وليس بمعايير القيم الاجتماعية والأخلاقية، أو بمعايير الكرامة الإنسانية، وذلك فضلاً عن الآثار السلبية المترتبة على ازدياد القهر والهيمنة السياسية والاقتصادية.

لقد أدت هذه التطورات السريعة في مجال العولمة وتكنولوجيا الاتصال الإلكتروني إلى تراجع دور الفرد في كثير من العمليات المعقدة، وظهور من يتولى القيام بذلك الدور نيابة عنه..
وأفضل مثال لذلك هو ما يحدث في التعامل مع المؤسسات الكبرى مثل المصارف والشركات وغيرها حيث تتولى أجهزة متخصصة أداء كثير من الأعمال نيابة عن الفرد الذي قلما يظهر في الصورة أو يشارك في أي مرحلة من مراحل العمليات التي لا يفهمها في أغلب الأحيان، فهو بالنسبة لها مجرد رقم كغيره من الأرقام في نظام لا شخصاني إلى أبعد الحدود، وهذه صورة جديدة ومتطورة من اغتراب العمل الذي تكلم عنه ماركس منذ زمن طويل في بداية الأمر..

والطريف هنا أن بعض الكتابات التي تعرضت للاغتراب الجديد تشير إلى ما يسمى بجهاز (خدمة العملاء) لتسهيل الإنجاز، ولكنه في الواقع يؤدي إلى مزيد من الاغتراب لأنه يفصل الشخص عن مجرى العمليات التي تتعلق بشؤونه الخاصة، كما يفرض حدوداً وقيوداً على التواصل بين أطراف العملية..

إنه جهاز (منع) أكثر منه جهاز خدمة.. كذلك الحال بالنسبة لوسائل الإعلام والإعلان التي تقوم الآن في مجال التجارة الإلكترونية بعمليات افتراضية لا شخصانية من خلال الفضاء الافتراضي، كما يساعد الإعلان على ترويج السلع دون أن يتحقق المستهلك نفسه من خصائص السلعة التي سوف يستخدمها في حياته اليومية، أو حتى يتأكد من مدى احتياجه الحقيقي لها، فقد خضع تماماً لسلطان الإعلان وانفصل عن احتياجاته الحقيقية أو اغترب عنها.

ويزداد الحديث الآن عن موضوع الإنسان الآلي وعن الروبوتات والذكاء الصناعي، ووجد الموضوع طريقه إلى الخيال الأدبي والعلمي الذي يكشف عن تضاؤل الإنسان أمام الآلة التي يقوم هو بتشكيلها وصنعها وإنتاجها لخدمته، فإذا بها تتمرد عليه وتخضعه لسلطانها وتتفوق عليه، وترمز تلك الكتابات إلى طبيعة المجتمع الرأسمالي المعاصر اللإنسانية أو المعادية للإنسانية وغيابها عند التعامل بين الناس، بحيث لم يعودوا قادرين على التحكم في أقدارهم ومصائرهم أو تحديد مستقبلهم بدرجة عالية من اليقين، فالمشاهد الآن هو أن ما يبتكره الإنسان وينتجه بيديه وعقله لن يلبث أن يتحول ضد الإنسان الذي أبدعه، وبذلك تصبح تلك الإبداعات مصدر عبودية للفرد وتسلبه قدراته على اتخاذ القرارات بنفسه وعلى توجه حياته بدلاً من أن تساعد على توسيع مجال حريته.

وبعد.. كان الرومان يعتبرون العبيد على أيامهم مجرد آلات ناطقة أو صوتية، أي أنهم فاقدون لجوهر الإنسانية والعقل المفكر والإرادة الحرة،
ويبدو أن هذا ينطبق إلى حد كبير على كثير من البشر في المجتمع المعاصر، وهو مجتمع ما بعد الحداثة، وما بعد الصناعة ومجتمع العولمة، حيث تتوافر عوامل كثيرة تعمل على هدم إنسانية الإنسان وشعوره بآدميته، وتجعل منه شيئاً أقرب إلى الآلة الصوتية أو الناطقة كما هو الحال في مجتمعات عالمنا الثالث بوجه خاص.. ويعتبر الكثيرون من المفكرين إحلال الآلة محل البشر وتحكمها فيهم نوعاً من النكسة الأخلاقية التي أصبحت أحد ملامح الحياة الجديدة وأنها سوف تكون سمة المستقبل وجزءاً من تفكير البشر.. فهل هناك خلاص؟

العدد 1104 - 24/4/2024