الحرب الصامتة بين واشنطن وكاراكاس

 

بدأت التوترات الأمريكية الفنزويلية بالتزايد منذ عدة سنوات، إلى أن انفجرت في الآونة الأخيرة، بعد أن بدأت فصول محاولة الانقلاب الأخيرة ضد الرئيس البوليفاري (مادورو) بالظهور إلى العلن، مترافقة مع تصاعد وتيرة الاتهامات بين واشنطن وكراكاس، إلى أن وصلت إلى مرحلة التأزم، بعد أن اتخذت الحكومة  الفنزويلية سلسلة من الإجراءات الجديدة لتقييد حركة عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في بلادها، ليقرر بعدها الرئيس الفنزويلي تقليص عدد موظفي السفارة الأمريكية في كاراكاس، والحد من أنشطة الدبلوماسيين الأمريكيين في البلاد، وأمهلت السلطات الفنزويلية واشنطن 15 يوماً لتقليص عدد موظفي سفارتها في كاراكاس، بنسبة 80 في المئة، ليصبح عددهم 17 موظفاً من أصل 100 موظف موجودين حالياً.

هذه الإجراءات ترافقت مع إعلان البيت الأبيض بأن فنزويلا تمثل (تهديداً غير عادي واستثنائياً) لأمن الولايات المتحدة. وترافق ذلك مع توقيع الرئيس الأمريكي مرسوماً بفرض عقوبات جديدة على عدد من المسؤولين الفنزويليين الحاليين والسابقين، لأنهم (جرّموا المعارضة السياسية)، إضافة إلى اتهامهم بالفساد، دون أن ننسى التهمة الذهبية التي توجهها واشنطن إلى من تغضب عليه، ألا وهي انتهاك حقوق الإنسان..!

العلاقات المتدهورة بين البلدين ليست وليدة اللحظة بل إنها موجودة منذ العشرية الأولى من القرن الحالي، ففي ظل  حكم هوغو تشافيز، رئيس فنزويلا الراحل، الذي استمر حكمه 14 عاماً، كانت فنزويلا في حالة صدام مباشر مع الولايات المتحدة، وقد سعى شافيز لاستغلال كل مناسبة لإظهار معاداته للولايات المتحدة وحلفائها، كما أنه وجه الكثير من الاتهامات للولايات المتحدة بالسعي للانقلاب على نظام حكمه (بعد فشل انقلاب عام 2002)، والتدخل في الشؤون الداخلية لبلاده، ومحاولة فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية على دول أمريكا اللاتينية، كما أعلن بوضوح تعمّده التقارب مع أعداء الولايات المتحدة، مثل الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو، والرئيس الإيراني حينذاك محمود أحمدي نجاد.

على العكس من ذلك، لا يوجد أي دليل على أن حكومة نيكولاس مادورو في كاراكاس، أو حكومة شافيز قبلها، المنتخبتين شعبياً، قد سَعَتا على الإطلاق إلى إثارة العنف والاضطرابات أو زعزعة الاستقرار في الولايات المتحدة، أو تخريب أي انتخابات أمريكية. وفي المقابل، هنالك أدلة كثيرة تؤكد على أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال تسعى إلى تقويض الوضع في فنزويلا. ففي عام 2002 حدث انقلاب عسكري فاشل اعتقل الانقلابيون واحتجزوا هوغو شافيز، رئيس البلاد المنتخب، وذلك لفترة قصيرة. وفي أثناء ذلك وعد رئيس الولايات المتحدة، جورج دبليو بوش، بالاعتراف السريع بمدبري الانقلاب، مثنياً عليهم باعتبارهم المنقذين للديمقراطية. ولكن قبل أن تتمكن واشنطن من استجلاب مزيد من الإحراج لنفسها، بالاعتراف رسمياً بهذا التدخل السافر في الشؤون الداخلية لأحد بلدان أمريكا اللاتينية، أدّت انتفاضة شعبية في فنزويلا مدعومة من فرق عسكرية موالية للنهج البوليفاري إلى إطلاق سراح شافيز من الأسر، وإعادته ظافراً إلى قصر الرئاسة. الأمر الذي أدى إلى فشل الانقلاب العسكري فشلاً ذريعاً.

وفي الشهر المنصرم، ساعدت الولايات المتحدة، من خلال (الصندوق الوطني للديمقراطية) الممول من الكونغرس، و(الوكالة الأمريكية للتنمية)، ذات الارتباط المعروف بوزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية، في تمويل وتنظيم اضطرابات سياسية في فنزويلا، وحرّضت على محاولة انقلاب فاشلة، تمكنت الشرطة الفنزويلية من إحباطها، وأسفرت عن اعتقال عدد من المدنيين وقادة الجيش اليمينيين، إضافة إلى بعض الأمريكيين.

رغم ذلك فإن الحكومة الفنزويلية وجهت عبر وزارة خارجيتها رسالة إلى مواطني الولايات المتحدة، نشرتها صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية، أكدت فيها أن (فنزويلا لا تشكل تهديداً) لواشنطن، وأنها تطالب برفع العقوبات غير الشرعية التي فرضها أوباما على الشعب الفنزويلي.

إن التهديد الحقيقي للأمن الوطني في فنزويلا وفي جميع أنحاء العالم اليوم، هو سياسات البيت الأبيض. والولايات المتحدة خطر لا على أمن شعوب العالم فقط، سواء في دول العالم الثالث، أو في روسيا والصين، أو في دول أوربا المتحالفة معها ظاهرياً، بل هي خطر أيضاً على الشعب الأمريكي ذاته، نتيجة سياساتها الخرقاء التي جعلت شعوب العالم بأجمعها تعادي الولايات المتحدة وتكن البغضاء لشعبها.

هذه الموجة من الكره للولايات المتحدة جعلت بعض السياسيين في واشنطن يدقون جرس الإنذار من تداعيات سياسات البيت الأبيض وخصوصاً في أمريكا اللاتينية. لذلك كان الاعتراض الأبرز والرفض الأكبر لهذه العقوبات الأمريكية الجديدة من جانب بعض قيادات الحزب الديمقراطي – حزب الرئيس باراك أوباما نفسه- التي رأت أن هذا التحرك جاء في إطار إخفاق الإدارة الأمريكية عموماً والرئيس أوباما على وجه الخصوص في استراتيجيته الجديدة للأمن القومي الأمريكي، في تحديد مصادر التهديد لأمنهم القومي عموماً أو تجاهل أمريكا اللاتينية – الحديقة الخلفية للبيت الأبيض- في هذه الاستراتيجية وآليات العودة الأمريكية أو استعادة الولايات المتحدة لهذه المنطقة من (أنياب) المنافسين الجدد مثل روسيا والصين والهند وإيران، كما شككت هذه القيادات في مصداقية كون فنزويلا تمثل (تهديداً غير مألوف للأمن القومي) للولايات المتحدة.

وطالبت كل من جريدتي (الواشنطن بوست) و(النيويورك تايمز) وقيادات الحزب الجمهوري في الكونغرس إدارة الرئيس أوباما بأن يكون الحوار هو الحل الوحيد للأزمة مع فنزويلا، لعدة اعتبارات أهمها: استمرار تمتّع نيكولاس مادورو رئيس فنزويلا بتأييد قوي من شرائح واسعة في فنزويلا، والانقسام الكبير والحاد في صفوف قوى المعارضة التي تفتقر لأرضية مشتركة تجتمع عليها. واقترحت مراكز الأبحاث المتخصصة في الشأن اللاتيني ضرورة قيام إدارة أوباما بتوظيف إمكانات التجمعات الإقليمية، سواء في قمة الأمريكيتين أو منظمة الدول الأمريكية أو منظمة اليوناسور «اتحاد شعوب أمريكا الجنوبية Union of South American Nations (UNASUR)» من أجل إجراء جلسات حوار بين الرئيس الفنزويلي وقيادات المعارضة، بما يمنع استمرار الصراع بين الطرفين، ويحفظ للولايات المتحدة كرامتها وهيبتها (بصفتها أخاً أكبر) لجميع الدول في المنطقة بعيداً عن منطق الاستعلاء والبحث عن أعداء ومصادر تهديد وهمية زائفة للأمن القومي الأمريكي.

العدد 1105 - 01/5/2024