الهجرة.. نحو حلم بواقع أفضل

ليس طابوراً أمام الفرن للحصول على الخبز، ولا طابوراً لدفع فواتير الكهرباء أو الهاتف، إنه طابور المسافرين أمام أقسام الهجرة والجوازات، أملاً بالحصول على تأشيرة خروج تنقذ الحالمين من آثار الدم والخوف المنتشرين على الأرض السورية.

لم ترتبط هجرة الشباب فقط بالواقع الذي فرضته الأزمة السورية، فهي ظاهرة قديمة مرتبطة بالوجود الإنساني، وإن كانت السياسات النيوليبرالية التي أبعدت الاقتصاد الوطني عن أهدافه الاقتصادية والاجتماعية، قد دفعت بالكثير منهم إلى مغادرة الوطن، ما قبل الأزمة، إلا أن هذه الأزمة التي تمرّ بها البلاد، أظهرت للجميع كم كانت هذه السياسات بعيدة عن الواقع، ودفعت بالعديد من الشباب إلى السفر حتى دون الرجوع إلى الوراء.

فقد وصلت نسبة البطالة بين الشباب السوري إلى نحو 34%، بلغت نسبة الشباب الراغبين في الهجرة ممن تتراوح أعمارهم بين 15و24 عاماً نحو 34.3%، وترتفع هذه النسبة بين ذوي الأعمار 19 إلى 24 عاماً لتصل إلى 43.2% من العينة المبحوثة. وبحسب دراسة للهيئة السورية لشؤون الأسرة، فإن الشباب الراغبين في الهجرة كانوا من ذوي الدخول المحدودة، التي تتراوح بين 4000و8000 ليرة سورية شهرياً، وأكدت الدراسة أن السبب الذي يدفع العاملين الشباب للتفكير بالهجرة هو تحسين المستوى المادي والمعيشي بالدرجة الأولى.

وتتابع الدراسة في أسباب الرغبة في الهجرة، إضافة إلى البحث عن فرصة عمل وتحسين مستوى الدخل بحكم أن معظم الراغبين بالهجرة هم من ذوي الدخل المنخفض، انخفضت نسبة طالبي الهجرة لأسباب أخرى كمتابعة الدراسة والإحساس بالعجز عن تحقيق الطموحات العلمية أو المهنية، ما يدل على تراجع الرغبة بالتحصيل العلمي وتنمية القدرات الذاتية، وهذا يعني أن همّ الشباب الأول تركز في تحسين الوضع المادي له ولأسرته، بسبب مايشهده المجتمع من أزمات اقتصادية، وما خلّفه ذلك من آثار سلبية على الوضع الاجتماعي، كله يدفع الشباب إلى التفكير بشتى الوسائل المساعدة لتحسين وضعه المادي، ثم يفكر بالناحية العلمية وغيرها من الأهداف، إذ يصطدم الشباب بحسب الدراسة مع واقعه، فهو يرى تجارب الآخرين ممن حصلوا على شهادات عالية ولم يوظفوا طاقاتهم هذه في مجال اختصاصهم وإنما في مجالات بعيدة كل البعد عما تعلّموه.

مفاهيم خاطئة في الدول المستقبلة

غالباً ما يكون الرأي العام السلبي الشائع على نطاق واسع في البلدان التي يهاجر إليها السوريون بشأن الهجرة والمهاجرين مدفوعاً بقدر أقل من الحقائق، مثل العدد الفعلي للمهاجرين الذين يصلون إلى دولة محددة، وقدر أكبر من المفاهيم الخاطئة كالتي تتردد حول سرقة المهاجرين -ومنهم السوريين- للوظائف من السكان المحليين ودفعهم معدلات الجريمة للارتفاع وإثقالهم كاهل الخدمات العامة.

وقد توصلت الدراسات العديدة التي أجراها الأكاديميون والباحثون إلى دلائل تدحض العديد من هذه المغالطات.

هل سيرجع السوريون يوماً؟

ثلاثة أعوام من التعب وعدم الاستقرار، فهل يرجع الشباب السوري إلى وطنه لتعميره وبنائه من جديد، أم أنّه استقر في عمل وبلد آمنين؟ ما الحاجة إلى البدء من جديد في بلد لم يُشفَ من آثار الدم..

(في الأمد القريب، أستبعد العودة، لأنّي بدأت العمل منذ مدّة قصيرة في مجالي، وهي فرصة ذهبية بالنسبة إليّ، كما أنّ خدمة العلم أحد أهمّ أسباب سفري خارج سورية).. يقول أيهم (28 عاماً، وهو مقيم في لبنان) ويضيف: إذا تغيّرت قوانين خدمة العلم، وسنحت لي فرصة عمل أهمّ من عملي الحالي، أتمنى العودة، ولكن بشكل مفيد لي وللبلد، لا لأحدنا فقط، من الصعب أن أعود حالياً، وقد بدأت خطواتي في طريق تحقيق أهدافي.

حلم بالعودة

ويؤكد د.أسامة (24 سنة)، الذي لحق بعائلته المقيمة في السعودية، رجوعه إلى سورية في حال هدأت الأوضاع، إذ يملك سببين للعودة، أولهما بحسب تعبيره  معنوي والآخر مادي، المعنوي هو الشوق والحنين إلى كلّ شيء في مدينته؛ بشوارعها ومحالها وأهلها، ويشير إلى أنّ أكبر أشواقه لحبيبته، والسبب المادي للعودة  بحسب رأيه  يرجع إلى رغبته في متابعة دراسته في إحدى جامعات بلده، مشدّداً على أنّه سيكون أوّل الواصلين إليها لتعميرها.

التحصيل العلمي سبب آخر

بعض الشباب هاجر في بداية الأزمة، وهدفه التحصيل العلمي، فحسام، من حمص، خرج إلى إنكلترا للحصول على الماجستير في هندسة الاتصالات.

يقول: كنت أعتزم العودة فور انتهائي من دراستي، لكن لم أتوقع أن تسوء الأحوال أكثر.. ويتابع: لا أستطيع القول إنّ الحياة هنا سهلة، فالمجتمع البريطاني لديه مجموعة حسنات وسيئات مختلفة تماماً عن المجتمع السوري. لا أحد يكترث لما هو دينك أو لونك، وسيبتسم لك الجميع مادمت تحترم القانون.. أحياناً، عملية التأقلم مع الوسط الجديد تصبح مرهقة، بسبب غياب التفاصيل المشتركة التي جمعتني بأهل مدينتي سابقاً، كالطابور الطويل أمام المخبز صباحاً.

الخوف من الاعتقال

أحد أبرز الأسباب الكامنة وراء سفر بعض الشباب، كان الاعتقال، فمنهم من سافر بعد تجربة مريرة مع الاعتقال والبعض الآخر خوفاً منه، قصي الذي أمضى خمسة وأربعين يوماً في أحد الأفرع الأمنية نتيجة (تقرير) ألصق به بعض التهم زوراً وبهتاناً يعيش في لبنان في أوضاع صعبة منتظراً تأشيرة خروج كلاجئ إلى إحدى الدول الأوربية، قصي الذي كان يحلم دوماً بوطن أفضل قرر مغادرته إلى غير رجعة، بعد ما عاناه في الزنزانة.و ليس قصي وحده هناك الكثيرون ممن شاركوه المأساة أيضاً.

ليس الشباب فقط من دفعتهم الظروف الحالية إلى مغادرة الوطن، هناك عائلات بكاملها سافرت حتى إشعار آخر، بعد أن خسرت بيوتها أو عملها أو أحد أفرادها نتيجة للصراع الدائر على الأرض السورية، وإن كان الوضع المادي الجيد وبعض الحظ قد ساعد البعض على تأمين حياة أفضل في الخارج، إلا أن خيام اللاجئين المنتشرة في الأردن لبنان وتركيا تنطوي على الكثير من حكايات الألم والمعاناة القاسية التي يعاني منها اللاجئون السوريون هناك. عاصم المتطوع السوري في المجال الإنساني في لبنان يروي الكثير عن مشاهداته وعن معاناة السوريين في لبنان، يقول عاصم: هناك عائلات خسرت كل شيء وهربت للنجاة بأرواحها فقط، معاناة الأطفال هنا لا حدود لها، لكننا كمتطوعين نسعى جهدنا للتخفيف عنهم ورسم البسمة على وجوههم، وتوفير مقومات الحياة التي يصعب على الكثيرين الحصول عليها.

هجرة داخلية أيضاً

شهدت سورية انزياحاً سكانياً داخلياً ملحوظاً طلباً للأمان ولقمة العيش، وتشير التقديرات الأولية إلى أن عدد السكان المهاجرين داخلياً يقدر بنحو 3 ملايين نسمة، وقد أثر هذا العدد الكبير على التنمية البشرية، وكان لهذه الهجرة آثار أخرى مباشرة، كإحداث تغيير في التركيب الديموغرافي للمناطق السورية.

إن هجرة الشباب السوري تدفع للقلق على مستقبل سورية، فهم مستقبلها وحاضرها والشباب، كما كل السوريين يحتاجون إلى وقف نزيف الدم على الأرض السورية، ليتمكنوا من العودة إليها وإعادة إعمارها وإعادة أحلامهم المسلوبة منهم قسراً، يحتاجون إلى التطمينات على مستقبلهم وطموحاتهم، وإلى حضنها الدافئ الذي سينسيهم ما عانوه طويلاً في بعدهم عنه، ليكونوا الغد والأمل لبلد مثقل بالجراح والألم.

العدد 1105 - 01/5/2024