(يوتوبيا)

كان الفيلسوف بول توماس (وهو صاحب كتاب كلاسيكي عن علاقة ماركس بالفوضويين)، يقدّم مساقاً خاصّاً في جامعة بيركلي عن مفهوم اليوتوبيا في تاريخ الفكر السياسي،
وكان يُبرز بأنّه- على طول التاريخ- كانت هناك حجّتان أساسيّتان للدفاع عن مفهومٍ (مثاليّ)للسياسة، وعن (يوتوبيا)محتملة نسعى إليها في نهاية الطريق (سواء كانت دينية، أو علمانية، أو شيوعية، الخ).

السّبب الأوّل هو، ببساطة، الإيمان بهذه العقيدة ورؤيتها كـ(حقيقة)لا كنظرية (هذا وعد الله، هذه حقيقة علمية، هي حركة التاريخ المحتومة، هي الفطرة البشرية، الخ). من جهةٍ أخرى، كانت هناك دوماً الحجّة (النفعية)في تبرير اليوتوبيا، وهي تدفع أنّه بغض النظر عمّا إذا كان المثال الذي تنادي به هدفاً واقعيّاً أم أنه مجرّد وهم، فأنت (تحتاج) إليه – لو كنت تنوي إحداث أي تغيير حقيقي – من أجل تحشيد النّاس وتحريكهم.

الفكرة هنا هي أنّ الانسان لن ينهض من روتينه اليومي ويخاطر ويقاتل ويضحّي بحياته من أجل رفع الناتج القومي بخمسة في المئة مثلاً، أو أيّ هدف (واقعي)محدود، ولو كان عقلانياً ومتاحاً.

 النّاس عموماً، يقولون هذا التيّار، يحتاجون إلى مثال أعلى، إلى عقيدةٍ منزلة، أو حتّى إلى حلمٍ جميل، يناجونه ويسعون إليه – بغض النّظر عمّا إذا كان سيتحقق في الواقع يوماً.

يمكنني هنا أن أضيف حجّةً ثالثة، من خارج نطاق السياسة، في الدّفاع عن اليوتوبيا. وهي أنّ تجربة المجتمعات الحديثة في القرن العشرين تُبرز فرقاً واضحاً، في شكل التعامل الإنساني، وطبيعة الناس، ومعنى السعادة، بين المجتمعات التي ترى نفسها في سعيٍ نحو أهدافِ (مشتركة) و(عليا)، وتلك التي تكرّس الفرديّة ونهائية النّظام.

 هذه (النظرية) قد تكون تبسيطيّة، ولكنها تدّعي بأنّه في الدّول التي تجمعها فكرة عليا وطموحٌ مشترك (ولو كان نضالاً تحررياً، أو (بناء الاشتراكية)في ألمانيا الشرقية، أو حالة دول أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تُعيد الإعمار وتبني مدناً وتحقق النمو والازدهار)،
في هذه الدّول تنحو التفاعلات بين النّاس لأن تكون أكثر (إيجابية)، فيما هي تزداد سلبية وشراسة كلّما اقتربت من النموذج الرأسمالي الفردي (بغض النظر عن الحريات التي يتمتّع بها هذا الفرد، أو درجة رفاهيته). في الحالة الأولى، يكون هناك نوعٌ من (تواطؤ) مستمرّ بين أفراد المجتمع، بمعنى أنّنا نبني شيئاً معاً، وسيتحسّن حالنا معاً،
والجهد الذي نبذله اليوم هو من أجل أولادنا جميعاً، وأن يتحسّن وضعك وتتعلّم وتنتج فهذا يفيدني، والعكس بالعكس. في المجتمع الرأسمالي النيوليبرالي، حيث هذه (الصلة السياسية)غير موجودة، أنت لا ترى (الآخر) إلا كمنافسٍ محتمل، إمّا أن يكون عدوّاً أو هدفاً للاستغلال قد تستفيد منه، وتعامل ارتقاء غيرك على أنه خسارة لك وفرصة ضاعت عليك، والعكس بالعكس.

 

يوتوبيا على المرّيخ

 

لدى البليونير الأميركي (أصله من جنوب إفريقيا) إيلون ماسك، الذي بنى شركة (تِسلا)لإنتاج السيارات الكهربائية وشركة (سبايس إكس)لإطلاق الأقمار الاصطناعية ومصالح أخرى، خطّةٌ طموحة لإرسال آلاف النّاس إلى كوكب المرّيخ، وصولاً إلى بناء مدينةٍ تضمّ مليون إنسان على الكوكب الأحمر.

يعتبر ماسك أنّ رقم (مليون مريخيّ) هو ضروري لضمان أن تتحوّل (المستعمرة) البشرية هناك إلى مجتمع مكتفٍ يعيد إنتاج نفسه، فتصبح البشرية، حقاً، جنساً يستوطن الكواكب.
المثير هو أنّ ماسك يملك جدولاً زمنياً (واقعياً) لتنفيذ مشروعه، وهو يعتبر أن صواريخ (فالكون) التي تنتجها شركته ليست إلّا خطواتٍ تدريجية على درب تلك الخطّة. كما أنه ينوي أن يرسل أوّل سفينة فضائية إلى المرّيخ قريباً، بحلول عام 2020، ثمّ تتبعها رحلةٌ مأهولة بعد سنواتٍ قليلة.
حتّى المخطّطات العامّة للصواريخ الهائلة التي تحمل على رأسها سفينةً فضائية، تنقل مئات النّاس في رحلةٍ تدوم أشهراً بين الكوكبين، رُسمت (هي تشبه ناطحة سحابٍ من أربعين طابقاً، أقوى بعدة أضعافٍ من أيّ صاروخٍ أنتجته البشرية إلى اليوم، ومن الممكن – على طريقة صواريخ (فالكون)- استعادة أجزائها بعد أن يفرغ منها الوقود وإعادة استخدامها مراتٍ عدّة).

 يحلم ماسك بأنّه خلال عقدين أو أقلّ من بدء الرّحلات ستنطلق دورياً، كلّ سنتين تقريباً، أساطيل من هذه السفن الفضائية الهائلة، تنقل آلاف النّاس من الأرض إلى المرّيخ وبالعكس: الكوكبان يتقاربان ويتباعدان أحدهما عن  الآخر بحسب المدار، ومرّةً كلّ سنتين تقترب الأرض من المريخ إلى الحدّ الأقصى، وهي (النافذة) التي يجري خلالها إطلاق الرحلات.

السّؤال هنا، بالطّبع، هو (لماذا؟). حتّى لو كان هذا المشروع ممكناً تقنياً، وتوفّر له التمويل الكافي، ما معنى صرف مئات مليارات الدولارات على بناء مستوطنةٍ بشرية في صحراء هواؤها سام؟ الناس على الأرض لن يستفيدوا البتّة من الموضوع، فالغالبية العظمى لن تملك ثمن (تذكرة السفر) لو شاءت أن تشارك في استعمار المجرّة،
وفكرة إرسال موارد من المرّيخ إلى الأرض بعد استخراجها ليست عمليّة (حتّى لو جرى اكتشاف مناجم ذهبٍ وألماس هناك، سيكون ثمن نقلها إلى الأرض أكبر من قيمتها). دافع ماسك عن مشروعه بحجّة أنّه (بوليصة تأمين) للبشرية، حتّى تستمرّ ولو أحاقت بالأرض كارثةٌ ما أبادتنا جميعاً (لا أفهم ماذا نستفيد تحديداً من وجود أناسٍ على كوكبٍ آخر بعد أن نُباد، أو من كلّفنا وكلّف ماسك بضمان استمرارية الجنس البشري).
يقول ماسك أيضاً إن المستقبل المحتّم للبشرية هو في أن تتحوّل إلى جنسٍ عابرٍ للكواكب، وما يفعله هو الخطوة الأولى على هذا الدرب.
في الحالتين، لا يوجد ما يبرّر مشروعاً كهذا، اليوم:
المعدّات التي تكلّف ملياراتٍ الآن قد تصبح رخيصة ويسيرة بعد مئة عام، وما لا يمكنك أن تحلم بفعله بواسطة التكنولوجيا الحالية سيصبح متاحاً واعتيادياً في المستقبل، فلا حاجة إلى الشروع، بهذا الحسّ من الاستعجال والخطر بإرسال الآلاف إلى المرّيخ، بكلفة فلكيّة، ونحن نعلم أن البشرية لن تنتهي في السنوات القادمة ولا يتّجه صوبنا نيزك.

في مقابلة أخيرة أجراها، اعترف ماسك بأنّ هذا الطموح لا مبرر اقتصادياً أو عقلانياً له، بل إنّه يخوض فيه لأسباب (يوتوبية).
قال إن البشر يحتاجون إلى طموحٍ كهذا، إلى (سببٍ للاستيقاظ كلّ يوم)،إلى (شيءٍ يجعلك تحلم) و(يشعرك بالحياة)، وأنّ هذه هي الفائدة الحقيقية، بالنسبة إلى أهل الأرض،
من طموح استعمار المرّيخ. ماسك، بهذا المعنى، هو مثالٌ على الحلول الزائفة التي يطرحها الانسان الغارق في الرأسمالية: هو يشعر بتغريبها وقسوتها وافتقارها للأمل، ولكنّه – بدلاً من أن يتخيّل بديلاً حقيقياً ونافعاً، يستجيب حقّاً إلى ما ينقصه – يطرح شعاراً وطنياً شعبوياً، أو يتخيّل (يوتوبيا عنصرية) (اشتراكية المغفّلين)،
أو يقترح مشروعاً خيالياً، لا يقترب من المركز السياسي، لاستعمار كوكبٍ آخر (حتّى لو تحقق هذا المشروع، فكيف سيكون (يوتوبيا) ضمن الشروط الرأسمالية؟ ألن تدخله الحكومات والشركات وقوانين السّوق، ويتحوّل ككلّ شيء آخر، إلى استعراض لقوّة رأس المال واستغلال الفوارق بين البشر؟).

جذور النذالة

الرّبط، في بداية المقال، بين غياب (المثال السياسي)، والسلوك الاجتماعي، هو ليس فقط لأنّ البشر (على طريقة إيلون ماسك) (يحتاجون إلى حلم)، فهذا من السهل توفيره أو توفير محاكاةٍ له على الأقلّ.
الفكرة هي أنّك حين تقبل بالرأسماليّة كواقعٍ مكرّس لن يتغيّر، ولا يمكن إيجاد بديلٍ له، تحت أيّ تبريرٍ كان (لأنّه النظام الأفضل الممكن، (طبيعي) ويناسب (الفطرة البشرية)، كما أنه الأفضل لي شخصياً، الخ) سيصبح من العقلاني والمنطقي لأيّ فردٍ أن يصبح إنساناً نذلاً.

حين تقبل بالرأسمالية وبحتميّتها، فأنت تستسلم ضمناً لفكرة أنّ المجتمع سيكون فيه دوماً فقراء وأثرياء، وأناسٌ عاطلون عن العمل، وأناسٌ جياعٌ ومشرّدون في الشّوارع، وهذه (طبيعة الدنيا) وهي لن تتغيّر.

 في هذه الحالة، فإنّ الخلاصة المنطقية الأولى، لك كفرد، هي في أن تسعى لأن تكون ممّن هم (فوق) وليس من هم (تحت)، من يملك المنازل والرفاهيات ويعيش على طريقة العالم المتقدّم (أو فيه)، وليس من يعرف التشرّد والبطالة والجّوع، ويعيش في أكواخ الفقراء، في هذا العالم،
كلّ نجاحٍ لفردٍ آخر، حتى أقرب النّاس اليك، هو- حرفيّاً – فرصةٌ تاهت منك وذهبت إلى غيرك، عليك، في هذا السّياق، أن تبذل جهداً وأن تذهب ضدّ العقل والمنطق (أو أن تكذب على نفسك) حتّى لا تكون حسوداً وكارهاً للآخرين.

 هذه (القواعد) لا تقتصر على المنافسة مع الأغراب، بالمناسبة، بل هي تتسرّب إلى كلّ شيءٍ، من نظرتك إلى نفسك، إلى الجماليات ومعنى السعادة، إلى مفهوم الزواج، وصولاً إلى العلاقات الأسرية.

حتّى بالنّسبة إلى أكثرنا حظّاً – من يملك وظائف (رأسمالية) مجزية ويضمن عمله وحاجاته الأساسية – فأنت حين تقبل بأنّ هذا النّظام الذي تعيش فيه هو المنتهى الذي لا فرار منه (الحياة المكتبية المملّة، القلق الدائم من خسارة كلّ شيء، التنازلات والإذلالات اليوميّة حتى تتقاعد وتموت) فلن يكون أمامك سوى (الهروب) نحو الاستهلاك، وعقاقير الاكتئاب، والرّهان على العطلة الصيفية، حتّى تشعر بأنّك (حيّ) وسعيد لأسبوعٍ في السّنة.
على الهامش:
من تقريرٍ حديثٍ عن اليابان، يبدو أنّ الجيل الياباني الجديد لا يُنفق كسابقه على السّلع الغالية، كالسيارات والبيوت أو حتّى الملابس، بل يوفّر ويقتصد ويُنفق مدّخراته حصراً على الإجازة والسّفر (وينضمّ جحافل إلى عشرات ملايين السياح الغربيين الذين يجولون كلّ مكانٍ يستحقّ التصوير في العالم، من ساحات البندقية إلى سواحل باتاغونيا).
يقول التقرير إنّ السبب هو أنّ هذا الجيل لا يحتاج إلى (أشياء) بل يفتقر إلى (تجربة)، والإجازة عندهم هي وسيلة لشرائها.

المُحزن هنا هو ليس أن تضطرّ إلى اللجوء إلى صناعة السياحة العالمية لتشعر بأنّك (على قيد الحياة)، بل المحزن هو حين ترى هذه (التجربة المعلّبة) تُقدّم على أنّها نشاطٌ (ثقافيّ) جدّيّ، وأنّك قد (اغتنيت) و(وسّعت آفاقك) وتعرّفت على بلدٍ وفهمته في أسبوع – فأنت لا تمارس الهروب من حياتك البائسة، بل تقرّب بين الثقافات والحضارات، على خطا ماركو بولو وابن بطّوطة.

على منهج (الهروب) نفسه، في عالمٍ بلا يوتوبيا تنتشر في الثقافة الشعبية والسينمائية أعدادٌ كبيرة من الأفلام والمسلسلات التي تصوّر نهاية العالم، وقد ازدادت في السنوات الأخيرة (خاصة بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008) بشكلٍ ملحوظ.

اللطيف هو أنّ هذه المنتجات، التي يستقبلها الجمهور الغربي بحماسةٍ وترحيب، لا ينظر إليها الكثير من النّاس كـ(فيلم رعب)، بل يسفر حماسهم عن رغبةٍ خفيّة بأن تتحقّق هذه السيناريوهات (بمعنى أنّ الامكانيّة الوحيدة للهروب من الحياة التي أعيشها هي عبر كارثةٍ طبيعيّة تحلّ بالكوكب أو فايروس زومبي، يدمّر كلّ شيء ويعيد المجتمع إلى نقطة الصّفر ويفتح كلّ الاحتمالات).

الكثير من النّاس تسأل، بداهةً، عن بديل الرأسماليّة وعن غياب أيّ نموذجٍ عمليّ، أو تصوّر ملموس، يشرح لنا كيف سيكون هذا العالم (الأفضل)الذي يطالب به الحالمون، وهي حجّةٌ تساق غالباً للتدليل على حتميّة النظام الرأسمالي، أعتقد أن آلان باديو كان من ربط بين المسألتين، بين الأفلام المتكاثرة حول نهاية العالم وغياب تصوّرات بديلة للنّظام القائم.

المشكلة هي في الهيمنة، التي تدفع الفيلسوف، وليست في قلّة الخيال أو استحالة البدائل. انظروا إلى كلّ هذه الأفلام الرهيبة، يقول، وقارنوها بقلّة التفكير في نظامٍ حقيقيّ مختلف: لقد أصبح من الأسهل علينا بكثيرٍ، في عصر الهيمنة، أن نتخيّل نهاية العالم على أن نتخيّل عالماً بلا رأسمالية.

(الأخبار)

العدد 1105 - 01/5/2024