معارضون.. والله أعلم!

هل من أحد في هذا العالم ينظر إلى المعارضين الوطنيين إلاّ باحترام وتعاطف؟ وحين نقول المعارضين الوطنيين فنحن نقصد أولئك المخلصين لمبادئهم، والغيورين على مصلحة أوطانهم، أولئك الذين يفضّلون ظلام السجون على نور حريّة يمنحها حاكم على طريقته، وبشروطه. وكم كنا ننظر بغيرة وحسد إلى تلك القامات النحيلة بهامات عالية وشامخة!

وهل من أحد أيضاً يستطيع التعاطف مع فئة تسمّي نفسها معارضة وطنية، وفي الوقت ذاته تقتل وتدمّر، تذبح وتغتصب، تفجّر وتخرّب؟ وفي النهاية يكيل أفرادها التّهم بالقتل والتخريب للحاكم ونظامه. أيّة معارضة هذه؟! مفهوم المعارضة الوطنية يضعنا مباشرة أمام فئة مثقفة وواعية، تعترض على سلوك وأداء يقوم به النظام القائم، اعتراض هدفه تصحيح المسار، اعتراض يفرض على المعارضين امتلاك مستوى عالٍ من الوعي والثقافة والفكر، يفوق ما يمتلكه أصحاب النظام وأتباعه. كما يفترض امتلاك حسّ وطني عالٍ أيضاً يضع صاحبه بين نخبة وطنية واعية، نخبة ترفض كل ما يسيء إلى الوطن، وتتبنّى منهجاً واضحاً يهدف إلى الانتقال بالمجتمع إلى مصافّ أعلى وأرقى.

وبقدر حاجة المجتمعات إلى تلك النخبة المعارضة وأتباعها ممن يتبنّون أفكارها ومبادئها، هي بحاجة أيضاً إلى التخلّص ممن يدمّرون الوطن، بذريعة المعارضة، وكأن المعارضة كمفهوم أصبحت مثار إشكال. ولأننا لا نعتقد ذلك، بسبب وضوح المفهوم، نرى ضرورة تخليص المجتمع من تلك الفئات والعناصر المخرّبة. وفي هذه الحالة لا بدّ من تعاضد النظام بممثليه الحاكمين مع بقيّة فئات الشعب، وبضمنها المعارضة الوطنية النظيفة، للوقوف في وجه المخرّبين ومنعهم من تنفيذ مشاريعهم المشبوهة. ولن يتمّ ذلك إلاّ من خلال لقاءات وحوارات شفّافة بين المعارضة والنظام لتوضيح جميع القضايا الإشكالية، والاتفاق حولها، ووضع برنامج عمل واضح يؤمن به الجميع سبيلاً للخلاص، وللخروج من الأزمة بسلام.

وحين ينقسم المجتمع فجأة أفقياً وعمودياً، فذلك أمر فجائعي، ومن الصعب تحديد المسؤول عن هذا الانقسام، وكما لايبرّأ النظام من المسؤولية، كذلك لا يمكن تبرئة النخب الفكرية، بل هي تتحمّل المسؤولية الأكبر، بسبب تقلّبها ونفاقها، بسبب سكوتها عن أخطاء النظام طيلة عقود من الزمن، وتكون الخيبة أكبر وأعظم حين نرى أن النخبة المعارضة كانت فيما مضى من المتمسّحين بأطراف النظام، والمتغنّين بمآثره، والراقصين في أعراسه. فأيّ نفاق هذا؟!

حين تقع الدولة في أزمة، فالأحرى بجميع عناصر الدولة، نظاماً ومعارضة، العمل على تجاوز هذه الأزمة، والعمل على إيقاف الانقسامات بين المكوّنات الاجتماعية، وربما تكون هذه الخطوة الأولى، وتتبعها خطوات أخرى. أما ما نراه على مستوى أزمتنا الراهنة فهو عكس ذلك، إذ وصلت الانقسامات المجتمعية إلى حدّ مخيف، ولا نجد أي عمل للمعارضة إلاّ اتّهام النظام بقتل شعبه. وهذا ما تركّز عليه المعارضة في خطاباتها اليومية، متناسية أنها بذلك تشكل غطاء للأعمال الإرهابية التي تقوم بها المجموعات المسلّحة، وهذا دليل آخر على أنها معارضة غير بريئة، بل هي متورّطة بعلاقتها مع تلك المجموعات.

الإيمان بالوطن كالإيمان بالله له أركان لا يكتمل إلاّ بها، وأول هذه الأركان هي رفض القتل وإدانة مرتكبيه، والتبرؤ منهم، فهل تقوم معارضتنا (الوطنية) بذلك؟ والمعارضة كمفهوم أيضاً تعني الاعتراض على العيوب، أما معارضتنا (المباركة) فهي تعترض على النظام القائم جملة وتفصيلاً، ولا ترى حلاً إلاّ بإسقاطه، كل ذلك من دون أن تطرح بديلاً ما، وهي لا تمتلك البديل، وهذا دليل على أنها معارضة طارئة، وليست معارضة حقيقية لها تاريخ ومنهج.

وحين نتذكّر أسماء قادة هذه المعارضة نتيقّن أكثر أنها طارئة، ووليدة حالة غريبة، وغربية وافدة عبر ما أسموه الربيع العربي، هذا الربيع القادم بأزهاره الدموية، ونسائمه المسمومة. معظم قادة المعارضة لم نسمع بأسمائهم قبل الأزمة كرجال فكر وسياسة، بل هم كالطحالب التي تنبت فجأة، وتنتهي بأسرع مما نبتت. ولا نشكّ إطلاقاً في أن ثورة يقودها ناس مخبولون، متناقضون في أقوالهم وأفعالهم، ويشرّع لها رجال دين منافقون، يحللون القتل في مكان، ويحرّمونه في مكان آخر، ثورة لا يملّ ثوارها من سفك الدماء والسرقة والتخريب، ثورة معظم قادتها مشكوك في وطنيتهم، هي ليست ثورة، وليست حراكاً اجتماعياً واعياً، وإنما هي حالة مرضية مفاجئة، تماماً كالزّكام، وسرعان ما تنتهي أعراضها بتناول حبّة دواء، أو بشرب كأس من عصير الليمون البلدي.

العدد 1105 - 01/5/2024