فما أطال السهر عمراً..!

من العادات التي رافقت صديقي سعيد الحزنان لسنوات عديدة، السهر حتى يسمع الصبح وهو يتنفس إيذاناً للعتمة بالهروب من أمامه. والعديد ممن يعرفون صديقي هذا عن قرب يعرفون فيه هذا الولع بالسهر. أحياناً يرافقه في سهرته كتاب، وأحياناً صديق، وأحياناً ذكرى يعود إلى تفاصيلها ليشحن روحه ويوهِم نفسه بأنه مازال على هذه الأرض ما يستحق الحياة.

لكن الشيء الجديد الذي طرأ على برنامج حياة صاحبنا هو النوم الباكر، كدجاجات جدتي التي كانت تحب السهر على وقع (تعيرني بالشيب وهو وقار). وهذا التغير العجيب الذي بات عنواناً لا يخفى على أحد من المقربين منه كان مثار تساؤلات عديدة حتى من قبل زوجته التي اتصلت بي سرّاً منذ مدة قريبة وطلبت مني أن ألج إلى عوالمه الدفينة وأبحث فيها عن سر هذا التغيّر في حياته، إذ بات النوم من أوّلياته.

لا أخفيكم أن زوجة صديقي كانت تغار عليه، وكان من الرجال الذين ما إن يغادرون البيت ولو لساعة واحدة حتى يبدأ جهازه الخليوي بإطلاق النغمات: تارة (تعليمة منها)، وتارة رسالة تذكره بأنها تنتظره وعليه ألا يتأخر. كانت هذه الحركات مدار جدال بينهما، وكانت تقول له بعد أن يعود مسرعاً وتتأكد من حبه لها (خيطك مربوط بكفي)! كان يضحك ودون أن يلتفت إليها يقول: أنا أوافقك الرأي على أن أحد طرفي الخيط مربوط في يدك، أما الطرف الآخر فأعتقد أنك لا تعلمين بأي شيء مربوط.

كانا يستمران في جدالهما الساخر، وكانا يضحكان على تتمة الحديث الذي لن أكمله لكم كي تبقى المقالة ضمن الحجم المعقول القابل للنشر. طبعاً هذا من جهة، ومن جهة أخرى كي لا تصابوا بالملل وتنتقلوا إلى نهاية القصة، لأننا أصبحنا في زمن لا نتقن فيه فن القراءة كي نستمتع بما نقرأ، بعد أن اعتدنا على الجمل القصيرة والعبارات القصيرة والتنورة القصيرة أيضاً كما تقول الأغنية!

المهم.. قصدت منزل صاحبنا سعيد الحزنان وطلبت من الزوجة تجهيز المتة، لأن الحديث قد يستغرق وقتاً طويلاً لاستخراج الكنوز الدفينة في صدره. المتة التي يستمر سعرها في التحليق دون أن يشعر به أحد ما يدفعنا للخوف من أن يقترب سعرها من سعر مشروبات أخرى كانت ولا تزال حكراً على بعض من يشغلون المناصب الحكومية والمفارز الحدودية. إذ أخبرني أحد هؤلاء وكان يعمل في مفرزة حدودية قبل أن تُفتضح علاقته بالمهربين أن سهرته مع زوجته باتت ترتبط بالمشروب الذي أحدثكم عنه (لا.. ليس المتة) فهو لا يشعر تجاهها بأية مشاعر إلا بعد أن يشربا لتراً مع ما يلزم من لحوم ومازوات وسلَطات، وُقيتم مثل هذه الزيجات!

حاولت أن أدخل إلى عوالم صديقي سعيد وأخوض معه في أكثر من حديث، علّني أستخرج ما يشغل باله ويجعله يهرب إلى النوم. ولأن صديقنا الحزنان يفهم من الإشارة، فقد ابتسم كعادته بعد أن وضعت زوجته المتة وانصرفت وهمس لي: أليست هي وراء هذه الزيارة المفاجئة؟! لم أستطع الهرب من نظراته، فضحكت وهززت رأسي إيجاباً، ثم قلت: ما السبب في هذا النوم الذي يسرقك من اللحظات الجميلة مع أم العيال ؟!

ضحك كعادته وأخرج علبة التبغ (طبعاً من النوع الرديء) وقال: النوم يا صاحبي هو أجمل شيء في هذه الحياة. قلت كيف؟! قال: الحاجيات اليومية ترهق كاهلي، والواجبات التي تقتحم حياتنا بقسوة لم تترك في أمسياتي ما يدعوني للسهر. قبل عدة سنوات كنت أجد طعماً جميلاً لكل ما يصادفني، أمّا الآن فكل ما في هذه الدنيا يصح تشبيهه بالورود البلاستيكية التي لا حياة فيها ولا رائحة. وقبل أن أدعه يكمل قلت وأنا أتحسس جبينه: وهل يقدم لك النوم حلولاً للمشكلات التي باتت تطرق تفاصيل أيامنا بقسوة كما قلت؟! قال وقد اغرورقت عيناه بالدموع:هناك العديد من الصور التي أراها في يقظتي تحاول أن تمحو ذاكرتي، وأنا لن أدع هذه اليقظة تفعل فعلتها فأهرب إلى النوم. قلت: وضّح لي ذلك.

 قال: في اليقظة لا أسمع إلا صوت البكاء والعويل والقصف والقنص والصراخ وصوت سيارة الإسعاف وهي تنقل المصابين، ولا أرى إلا الدمار والخراب والركض والهرب والازدحام والسيارات المتفجرة والجثث المتفحمة والمحال المنهوبة والبيوت المسلوبة. فتتصارع الصور في مخيلتي وأنفصل عن العالم الخارجي ولا أجد إلا سريري ملجأ آمناً، فأهرب إليه، وأنا أبتهل إلى الله أن يمنحنا الأمن والأمان. وأبقى أردد ذلك حتى تختفي تلك الصور ويبدو محلها صور من شوارعنا الجميلة كما كانت، ومشاهد أطفالنا وهم ذاهبون إلى مدارسهم، وعمالنا وهم على خطوط الإنتاج، وشرفاتنا العامرة بالمسرّات والسهرات، وصوت فيروز وهي تغني: (وطني يا جبل الغيم الأزرق.. وطني يا قمر الندي والزنبق). وتبقى هذه الأغنية ترافق أحلامي إلى أن يوقظني صوت زوجتي على خبر عاجل من هنا، ونقل مباشر من هناك، فأستعيذ بالله من شر أعمالنا، وأجلس أتابع تفاصيل أيامنا الجهنميّة التي باتت لا تسرّ ناظرها ولا تطرِب سامعها.. وكان الله في عونك يا مواطن! لن أكمل لكم القصة فأنا ذاهب كي أسخّن إبريق المتة!

العدد 1107 - 22/5/2024