مسألة المواطنة.. الواقع وحاجة البناء الجديد

علينا القول بداية إن مجتمعنا العربي خلال تاريخه القديم، والمعاصر حمل بين حواشيه تاريخاً طويلاً من الفتن، والاضطرابات، والمنازعات الأهلية، والداخلية ليأتي تالياً التدخل الخارجي الاستعماري بكل أشكاله الثقافية، والعسكرية، فيشعل هذه الفتن، والاضطرابات ويزيدها ناراً واستعاراً. اللافت أن أزمة البنى الاجتماعية العربية تعيد إنتاج ذاتها، بأشكال مختلفة، وتعيد إنتاج دورة العنف، والصراع سواء على المستوى القومي أو القطري وداخل المكونات الاجتماعية في القطر الواحد. خصوصاً عندما يحصل خلل ما، وتضعف السلطات المركزية. الأكثر خطراً أن تذهب التوجهات الديمقراطية، وإرهاصاتها في بعض الأقطار العربية إلى اتجاهات صراعية، وتصادمية غالباً ما تنتج تيارات أحادية جديدة ذات توجهات رجعية، وظلامية تصطدم مع السلطات القائمة، وتبرر إغلاق الطريق الديمقراطية الصحيحة.
وفي مسألة (المواطنة) وغياب روحيتها المجتمعية الأصلية تتحول هذه المجتمعات إلى تكوينات أدنى: قبلية، عشائرية، طائفية، مذهبية.
وكلها متنافر، وقد لا يجمعها جامع وطني بالحد الأدنى. لذلك يحصل صدامها في أول (امتحان وطني)، وتصل الأمور إلى حد (الانسداد المجتمعي) كما يقال في علم الاجتماع. ويصل ذلك في بعض الواقع الاجتماعي العربي إلى إنتاج نظائر لحركة (طالبان) الأفغانية.
هذا كله يستدعي من كل قوى (التنوير العربي) جهداً بحثياً، وشاملاً لدراسة طبيعة (البنى الاجتماعية العربية)، وبالتالي الاشتغال الثقافي والتنموي على هذه البنى لتطوير هوية هذه البنى من العصبوية الضيقة إلى الهويات، والانتماءات الحضارية الكبرى، ومن التصادم والتجادل المذهبي إلى الدوائر الإيمانية، والإنسانية الكبيرة.
في مقاربة (مفهوم المواطنة) كسياق تاريخي نجد تبلور المفهوم مرافقاً لتطور نشوء (الدولة المدنية)، ومستويات انفتاحها على المجتمع. فقد ساعد نشوء الدولة القومية، والمشاركة السياسية، وحكم القانون وتطور كل منهما، ساعدت جميعاً في الانتقال، وتطوير (مفهوم وممارسة المواطنة) من التقليدي وجذوره الإغريقية، والرومانية.. إلى فكر عصر النهضة، والتنوير، وحقوق الإنسان والمواطن. هكذا ترسخ مبدأ المواطنة، حقاً ثابتاً في الحياة، واتسع نطاق ممارسته. وأصبح أحد الركائز الأساسية للعملية الديمقراطية، ولجميع المواطنين ولا سيما (المرأة).
نستطيع القول تعريفاً: إن المواطنة هي علاقة (بين الفرد والدولة) وفق القانون، ومبدأ الواجبات والحقوق. والمواطنة هي مستوى من الحرية والمسؤولية. والمواطنة تشمل الحقوق السياسية في المشاركة، والمنصب، وغير ذلك. وهنا يأتي دور القانون، والمساواة فيه، على قاعدة المواطنة، وليس العرق، أو الجنس، أو الطائفة، أو غيرها. فالمواطنة هي عقد بين المواطن والدولة، على قاعدة الحقوق والواجبات.

في العلاقة بين مفهومي (الوطنية والمواطنية)
 فالوطنية هي الوقوف مع الوطن في السراء، والضراء. والوطنية هي حامية الأوطان، وهي سياج أمانها. وعامل التوازن والمشاركة بين الجميع يكرس مبدأ (المواطنة) ويحميها. وحصول الخلل في ذلك لا يؤمن (تطبيقات المواطنة)، إذ يتجمع الناس في الأرض، ولا يجمعهم ما تعطيه وما تنتجه هذه الأرض، إذ يكون التفاوت حاصلاً.
وفي معاني المواطنة وشمولها، إلى جانب الحقوق القانونية، والدستورية، والسياسية، لا بد من المشاركة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتقارب في الدخل، والثروة، والمكانة والتعليم، وفرص العمل، والرعاية الاجتماعية، وبالتالي تطبيقات التوافق في (العقد الاجتماعي).
بعض الدارسين يميز بين (المواطنية، والمواطنة)، فالمواطنية هي العملية السياسية والاجتماعية، التي تؤدي إلى بناء (المواطنة). أما المواطنة فهي العلاقة بين الفرد والدولة، وهي علاقة عقدية، ووجدانية، وقانونية تضمن كرامة الفرد، وحقوقه الأساسية، وتكافؤ الفرص وغيرها.
يوازيها أداء الفرد المواطن لواجباته في بناء المجتمع، والدفاع عن الوطن. وهكذا فالمواطنة (بنية شاملة، وشبكة من العلاقات) تنظم علاقة الفرد بالدولة، ناتجها الإحساس بالأمان، والانتماء إلى الوطن، والمواطنة بهذا تتقدم كإحساس نفسي وعاطفي ووجداني تجاه الأرض وساكنيها، بمعنى الوطن.
في بعض تفريعات معاني (المواطنة) هناك (المواطنة الثقافية)، وهي تعني حق جماعات المكون الوطني الاحتفاظ بثقافاتها، وتعبيراتها، ودمجها في الثقافة العامة الرسمية السائدة في المجتمع. (الحقوق الثقافية). والعنوان هو المشاركة الإيجابية والفعالية في أنشطة الحياة الوطنية. والثقافة هنا هي: اللغة، والطقوس، والعادات، والتقاليد.. إلخ.
لقد ركز (الفكر القومي العربي) في نشوئه وتطلعه لدى المفكرين القوميين الأوائل (ساطع الحصري، زكي الأرسوزي، ميشيل عفلق).. وغيرهم، على موضوع إقامة (الدولة القومية) كسلطة قومية، وعلى مفهوم: اللغة، والتاريخ، والشعور، والولاء السياسي، والوجداني، في تكوين الوجود القومي. وهنا حصل دمج (المواطنة بالرابطة القومية)، وهذا أدى إلى عدم تبلور (ثقافة المواطنة) واضحة في الفكر القومي العربي خلال القرن العشرين حتى فترة (الثمانينيات) بسبب غلبة مفردات: اللغة، والتاريخ في مفهوم تشكيل الوعي القومي على حساب مفاهيم الحقوق، والواجبات، وغيرها من مفردات تشكيل (ثقافة المواطنة). إذ كان الهم الأساسي للفكر القومي في مرحلة التأسيس هو مسألة (بعث هوية عربية جامعة) للعرب الخاضعين للحكم العثماني مناقضة لسياسة (التتريك)، التي مورست على نطاق واسع. كما كانت أوَّلية التخلص من الاستعمار، والتبعية، وبناء دولة الاستقلال، ومواجهة التحدي الصهيوني هي الغالبة على قضية الاشتغال بمفردات تكوين الدولة الوطنية، وقواعد المواطنة، وحقوقها، وقوانينها. بمعنى أن (العام) في اشتغال الفكر القومي غُلّب على مسألة التأسيس لدولة (المواطنة) ومفرداتها، لذلك نجد هذا التخبط داخل الكيانات الوطنية العربية بعد الانكسار الذي أصاب المشروع القومي، وتغيير التوجهات الداخلية القومية إلى صراعات محلية، وقبلية، وعرقية، وطائفية، أدى بعضها إلى تقسيم الكيان الواحد. لأن مشكلات (الاندماج الوطني) لم تحلّ، والمشروع القومي كحلّ عام (لم يتحقق)، فغلب موضوع التنازع على هوية الداخل الوطني، ووصل الموضوع إلى الهياج، والثورة، والعنف، وهكذا.
خلاصة القول: إن ما آل إليه الوضع العربي على صعيد غالب أقطاره يدعو الجميع إلى العودة لتشكيل (ثقافة المواطنة) ودولة المواطنة، وحاجات ذلك: الثقافية والاقتصادية والقانونية والدستورية، وأن تشتغل كل الأحزاب والتيارات والثقافات لبلورة هذا المفهوم، وعقده الاجتماعي الدستوري، والقانوني، وتنمية الوطنية المطلوبة. نظراً للحاجة الماسة لبناء الكيانات الوطنية العربية، وتأسيسهاً أصولاً، وإيقاف تداعيات ما يجري، والذي قد يؤدي بالكيانات القطرية ذاتها إلى البعثرة، والانقسام والضياع، والأمثلة قائمة في السودان وغيره.
 

العدد 1104 - 24/4/2024