صور عتيقة!

لعلي لا أنوي الذهاب إلى ماخطته أنامل البارعة إيزابيل ألليندي في روايتها (صورة عتيقة)، إنما هو ذهاب لفضاء ذلك العنوان الأثير، المشوب بالشجن والتأسّي والتماثل مع الماضي ورفضه في آن معاً.

وأعلم أن لصورنا أثراً لا يزول، إنها الذاكرة، أو قل هي الحضور الذي يناهض الموت والنسيان، لطالما ارتبطت  وهذا مؤكد  بذكرياتنا ودموع فرحنا، إنها اللحظة التي يمكن لأي كائن بشري استعادتها بزمنها ومكانها، وخفقة القلب أثناءها. من هنا يمكن إدراك سر العلاقة الخفية التي جعلت من الصور على اختلاف أزمنتها وأمكنتها، أشبه بالمرايا، إذ تشي باستحضارٍ لمكوناتها، حتى إننا، على مستوى الأعمال الدرامية، لا نعدم صوراً لشخصيات يحاكيها الممثلون، شيء من المناجاة والكلام، كأنها تصغي إليهم فتبادلهم انكسار لحظاتهم، والتوق الأسير لاستعادة حوارات مفقودة!

لا سيما تلك التي تضج بالحياة، أو ترمي ابتسامة عميقة أو نظرة شاردة، وربما تتجه صوب أفق آخر. كم حيّرت الجوكندة  رائعة دافنشي  مفسريها ومؤوليها على السواء، فهل يمكن القول إنها أي  الصور  تشي بسرديات شديدة الخصوصية؟!

وكم يعني العثور على صورة نادرة مثلاً من دلالات أبلغها مقاربة الأحلام وجعلها ممكنة، والأمثلة الكثيفة لا تختزل أهمية الصورة وفرادتها، ولا سيما في حقول الدراسات اللسانية والسيميائية، حتى إن لغوياً سويسرياً هو (فردناندو دوسير) سعى لتشبيه الصورة بالعلامة اللسانية، إذ ثمة دال هو التمثيل المادي للصورة، وثمة مدلول هو المعنى الذي قد تحمله الصورة إلى ذهن المتلقي.

ففي مسلسل الخربة  العمل الدرامي اللافت  يذهب (جوهر – محمد خير الجراح) إلى أن الصورة التي يختزنها ويفتخر بها تمثل تاريخاً له قيمة، مدافعاً عنه أمام الأستاذ (صياح – جمال العلي)، هذا المعنى الذي يتواتر كلما استحضرت الصور بمجازها، أو قوة مثالها فيما تستبطنه من لحظات استعادية، أو كما يرى المصورون التوثيقيون، (رؤية إنسانية وزمن محكم).

والسؤال: ما الذي استدعى هذا السياق من امتداح الصور؟!

أحالتني إلى ذلك مفارقة غريبة، هي أن أحد الذين يعيشون هاجس السفر  هذه الأيام  وجرياً على عادة تقضي ببيع المفروشات مثلاً، أو الأشياء التي لا يمكن حملها، ولكن هل يخطر في بال أحد أن تباع الصور الشخصية  العائلية؟ الأمر هنا يدعو للاستهجان حقاً، فقلت في نفسي: لن أكون شاهداً على محضر بيع الذكريات، ولأعتبر أن ما يجري هو على سبيل التندر، ولكن صاحبنا كان جاداً بما يكفي لأن يهرب من شيء ما، دونما التفاتة بعينها، تساءلت في أسى تراجيدي: هل يجوز للمرء بيع ماضيه، وربما حاضره، ولماذا؟ لطالما كانت صورة ما عند كثيرين تمثل التقاطاً لتلك اللحظة وتعويضاً لفقدٍ ما.

إذ يذهب الخيال الشعري لاستقراء (مستقبل في ذلك الماضي) لا يقول خيال شاعر يقظ. بخدعة (الماضي حين يغدو صبانا)، لأنه في كل فعل (كان) هناك أندلس.. في كل ليل ذكريات، وفي الذكريات يغدو كل شيء ملكنا.. والقمر أجمل والشمس أجمل.. (كنا هي فعل الأفضل). فإذا كان ثمة من يبيع، فمن هو المشتري حقاً؟ أو ترانا نردد: (يا شاري الهم من صاحبه)، ننام وتصحو الذكريات، وتأسرنا الصور كسلسلة كثيفة من (أنا.. والآخرون)، والزمن بيننا.

أغلقت (محضر بيع الذكريات) على ذكريات تبدو الآن طارئة.. حسبها تاريخ يتوسل المكوث في تضاعيف الذاكرة، والقادم من الأيام.

العدد 1104 - 24/4/2024