لماذا تحتاج الولايات المتحدة إلى ثورة «برتقالية» في روسيا الاتحادية؟

هل ثمة لدى (الحكومة العالمية) في مذهبها المتعلق بفرض النظام العالمي الجديد دوافع للانتقال إلى الأعمال الحربية المباشرة ضد النظام الحالي في روسيا الاتحادية؟ لماذا لم يعد يرضيها التكتيك الذي اتبع في التسعينيات في شراء النخب الحاكمة في روسيا الاتحادية والضغط عليها في الوقت نفسه؟ النيات لا يعلم بها أحد، أما من وجهة النظر البراغماتية فبالإمكان افتراض وجود مثل هذه الدوافع.

1- كان تكتيك شراء الفئات الحاكمة العليا في روسيا الاتحادية والضغط عليها محسوباً من حيث المبدأ لفترة قصيرة الأمد. لم تكن (الحكومة العالمية) قادرة على أن تصدِّقَ جدياً افتراض أن روسيا ستفقد نواتها الحضارية المستقرة وتقبل دورَ التابع الطرفي للغرب، هذا الدور المحضَّر لها في النظام العالمي الجديد. لم تكن حقيقة أن قسماً من النخب الحاكمة في روسيا قد صدق في وقت ما مثل هذا الأمر (أو ادعى أنه يصدق) لتضلل الدوائر الفكرية في السلطة العالمية الحاكمة. لقد حذر زبيغينيو بريجينسكي باستمرار من أن روسيا ستبدأ تنهض لزاماً، وستُبعث كإمبراطورية. لذلك بُذلت هذه الجهود في الثورة (البرتقالية) في أوكرانيا. تحدَّثَ عن ضرورة ضم أوكرانيا تحديداً إلى الغرب انطلاقاً من هذه الاعتبارات قائلاً: (إذا نجحت روسيا في منع ضم أوكرانيا فإنها تستطيع أن تصير مجدداً إمبراطورية تأمر المحيطين بها. وستتحول روسيا حتماً إلى خطر على جيرانها).

يرى الاستراتيجيون الجيوسياسيون في الولايات المتحدة في هذه المرحلة، بعد العملية الناجحة في أوكرانيا، أن بالإمكان إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه في دولتية روسيا الاتحادية. جاء مؤخراً في التقرير الأمريكي الإسرائيلي الذي قدمه المركز التحليلي للتنبؤات الإستراتيجية (Stratfor): (انهيار روسيا واستغلال هذا الوضع من قبل الولايات المتحدة قادنا إلى حد فاصل. في حال ضياع أوكرانيا من يد روسيا فإن جيورجيا ستصير البلد المهيمن في القوقاز، وستُلقي الأحداثُ في قرغيزيا بظلالها على آسيا الوسطى كلها. (يمكن تصور هذا كله بسهولة)، وسوف تصير مسألة استمرار الاتحاد الروسي على المحك. سنكون شهوداً على مرحلة انحطاط ثانية حين ينفصل قسم من الاتحاد الروسي عنه. روسيا التي نعرفها اليوم لن تكون موجودة)(1).

2- استمرارية فترة الاستنزاف الممنهج (السلمي) لروسيا الاتحادية تحددت بالموازنة بين أزواج من العوامل المتعارضة – بين كمية القدرات العسكرية الكامنة لدى روسيا الاتحادية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، وسرعة عملية إضعافها؛ وبين مقدرة النظام السياسي الروسي على التحكم بالوضع الاجتماعي وفي الوقت نفسه عدم السماح بإعادة بناء روسيا كدولة عظمى وتمكينها من ترميم نواتها الحضارية وتكتيل حطام الاتحاد السوفييتي السابق حولها.

من وجهة نظر المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية (في إطار مذهب النظام العالمي الجديد) فإن تشكيلات هذه العوامل كلها ستصل في القريب العاجل إلى الوضع الأمثل. قد يؤدي ذلك بدرجة احتمال عالية إلى إضعاف القدرة على التحكم بروسيا الاتحادية، من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك من جانب القوى الموالية للغرب داخل روسيا. تالياً سيزداد خطر أن تبدأ روسيا الخروج من تلك المصيدة التاريخية التي أُوقعت فيها في أثناء البيريسترويكا وإصلاحات التسعينيات – ستبدأ شيئاً فشيئاً تعيد بناء درعها النووي واقتصادها.

جاء في التقرير الأمريكي الإسرائيلي الذي استشهدنا به أعلاه: (تستطيع روسيا أن تعيد بناء نفسها إذا مُنحت الوقت. الولايات المتحدة لا تخطط لرؤية روسيا وقد أعادت بناء نفسها، وهي تالياً، لن تمنحها الوقت. تنوي واشنطن أن ترى روسيا في وضع غير مؤات، وأن تصل بهذا الوضع إلى عملية غير عكوسة. إن روسيا اليوم قريبة جداً من هذا الوضع، لكن النافذة التي سرعان ما ستغلق ما زالت برأينا مفتوحة. السؤال بسيط – هل ستتلقف روسيا الفرصة التي يمكن أن تكون الأخيرة، أم أن روسيا باتت متعبة جداً ولا تستطيع الاهتمام بهذا الأمر؟).

3- مع حلول عام 2000 صار واضحاً أن مردود ذلك التأثير التلاعبي في الوعي الجماهيري لمواطني روسيا الاتحادية، الذي اتبع في نهاية الثمانينيات ومرحلة التسعينيات، قد بدأ ينفد. اتضح أنه غير كاف من أجل تغيير منظومة القيم الأساسية لدى غالبية السكان. لم يؤد تحطيم عدد من حواجز الإيديولوجية والركائز الأخلاقية إلى قمع نظرة الشعب الروسي وشعوب روسيا الأخرى إلى العالم حتى يقبلوا أن يتحولوا في المستقبل إلى منطقة طرفية للرأسمالية ويفقدوا استقلالهم الثقافي والسياسي.

عدا ذلك، ولَّدت الإصلاحات التي قامت بها القوى الموالية للغرب في الوعي الجماهيري أمزجة شديدة وراسخة معادية للغرب لم يكن لها وجود حتى في الزمن السوفييتي. في كانون الثاني من عام 1995 وافق 59 % من المستفتين (في الاستفتاء (العام)) على أن (الدول الغربية تريد أن تحول روسيا إلى مستعمرة)، و55 % منهم على أن (الغرب يحاول أن يدفع بروسيا إلى الفقر والتفكك). لكن عبّر أيضاً 48 % من الشباب الحاصلين على التعليم العالي عن عدم ثقتهم بالغرب.

لم يعد ثمة وسائل لاستعادة هذه العملية دورتها، واستنفد نفسه وهم (العودة إلى الحضارة)، وانتهى الدفق المعادي للسوفييت الذي كان في الدعاية في أعوام التسعينيات. يمكن في مثل هذه الظروف لروسيا المنبعثة أن تشكل للولايات المتحدة خصماً إيديولوجياً أشد ثباتاً وأخطر من المجتمع السوفييتي الذي كان الوعي الجماهيري فيه مقموعاً ومُسَذَّجاً بالمادية التاريخية الرسمية (الماركسية).

4- صار أصعب فأصعب على القوى الموالية للغرب أن تتحكم تحكماً مضموناً بعملية إضعاف روسيا الاتحادية وتفكيك نواتها الثقافية. اضطرت السلطات في الانتخابات عامَيْ 2000 و2004 إلى استغلال الخطاب الوطني، ولذلك تجري الإصلاحات المدمرة قسرياً بتعارض صارخ مع غطائها الإيديولوجي. نشأت حلقة مفرغة: تسريع هذه الإصلاحات بهدف تخطي نقطة اللاعودة بسرعة، يزيد من المقاومة السلبية لدى السكان وجهاز الدولة معاً.

تجري عملية تجاوزٍ للانقسام الفكري في المجتمع، واشتد عود النواة المكونة تقريباً من نصف السكان والموافقة بالملامح العامة على (شكل مستقبل) روسيا المنبعثة. وفاقاً لآخر المعطيات، فإن (5,46 % يرون روسيا مستقبلاً دولة عظمى، ودولة اجتماعية قوية مرتكزة على العودة إلى التقاليد والقيم الأخلاقية. أي إلى تركيب معين من التقاليد السوفييتية والدوستويفسكية، وكما يقول البعض: (سلطة سوفييتية من غير شيوعيين). أما الأشكال الأخرى (لمستقبل روسيا) فتحمل في الغالب طابعاً طرفياً. هذا الهدف (المثالي) لا يوصَّفُ برأي غالبية الروس ضمن مصطلحي (الرأسمالية) أو (الاشتراكية)(2).

مع مثل دينامية العمليات هذه لا معنى لدى الولايات المتحدة لإطالة أمد طور الكبح الارتقائي لروسيا كدولة عظمى. تصير المخاطرة عالية على نحو غير مقبول بأن لا تستطيع السلطة الموالية للغرب بتشكيلتها الحالية في روسيا الاتحادية التعامل مع الثورة الترميمية الآخذة بالنضوج. لم يستطع فلاديمير بوتين بصفته رئيساً (أو لم يرغب) أن يمنع إعادة بناء روسيا كدولة عظمى لإرضاء الغرب.

لم يرغب فلاديمير بوتين (أو لم يستطع) في الوقت نفسه أن يدعم بالأموال الدولة والنزعة إلى ترميم روسيا كدولة عظمى. نشأت في اللحظة الراهنة حال من التوازن غير المستقر إلى أقصى حد. وفي هذه الحال يمكن لأي قوة من القوى المتصارعة حتى مع توافر موارد غير كبيرة أن تدفع سير الأحداث في الدهليز الذي تراه مناسباً. وعلى الأرجح فإن الولايات المتحدة لن تفلت من يدها هذه الفرصة.

5- الدافع لدى الولايات المتحدة على التأثير الحثيث في العمليات السياسية في أوراسيا هو ازدياد قوة الصين والهند. ستبلغ هذه القوة في المستقبل غير البعيد مستوى حرجاً ستتقوض بعده زعامة الولايات المتحد، وسيصير مستحيلاً تحقيق العولمة (بالطريقة الأمريكية). أما في السوق العالمية للمواد الأولية فستصطدم الولايات المتحدة بمنافسة شديدة. تكمن الخطورة الأكبر لدى الولايات المتحدة في النزعة إلى تكوين مركز للقوة الاقتصادية والعسكرية مع حدوث التقارب بين روسيا الاتحادية والصين والهند. إذا استطاعت الولايات المتحدة فرض رقابتها على النخبة السلطوية في روسيا الاتحادية فإنها ستتمكن من منع هذه النزعة، وستتمكن حتى من تحويل روسيا إلى عامل كبح للصين في أوراسيا، وستظهر أيضاً فرصة من أجل تحقيق مخططات الجيوسياسيين الأمريكيين بتسميم علاقات روسيا الاتحادية مع العالم الإسلامي.

تمتلك الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة على هذا النحو الدوافع الكافية واللحظة الموضوعية الأكثر ملاءمةً من أجل تجذير الأزمة في روسيا ومحاولة (إعادة تجميع) منظومة السلطة من خلال وضع فريق السلطة الجديد على الفور تحت رقابة مباشرة أشد صرامة.

سيرجي قره مورزا

 

1 – www.inosmi.ru/print/219775.html.

2 – ل. بيزوف. في روسيا يقدرون العدالة. – »المجلة السياسية«، ،2005 العدد 15.

العدد 1102 - 03/4/2024