قبل أن تذوب الشموع!

مهلاً.. ليس عنواناً لفيلم هندي، أو رحلة بلهاء في تراجيديا برازيلية، إنه ببساطة عنوان لمرحلة تعود فيها الشموع لتضيء جانباً من عتمتنا، في مساءات تتسارع حكاياتها ما بين الخوف والجرأة، القلق والابتسامات المهدورة، فضلاً عن مشتقات حديثة وكلاسيكية تتوسل استحضار النور، لا سيما (مصابيح الكاز) العتيقة التي كان لها في ستينيات وربما سبعينيات القرن المنصرم حكايات أقربها طقوس القراءة. وقد تستحضر في هذا السياق أدبيات تحاكي (تراث) الشموع في الأدب، وفي الوجدان الجمعي  الفردي. فما الذي يعنيه من يقول: (لو أضأت أصابعي العشرة شموعاً) أو من يقول متغزلاً: (يا شمعة عمري.. وهكذا تتراكم ثقافة تشي بها تلك الشموع على اختلاف أحجامها، الناحلة أو المكتنزة، ثقافة من شأنها في زمن مختلف، أن تذكرنا (برومانسيات) أصبح نصيبها  والله أعلم  في الخيال وفي المجاز المرسل، كطفولات شهية نسعى لالتقاطها عندما تختل دورة الزمن، نخشى ما تفضي إليه ظلمات (مؤقتة) من عدم بارد، أو صمت ثقيل لا تقطعه سوى انخطافات سريعة للاوعي، وما يشبه هذياناً لا يضحك ولا يبكي. شموعنا إذن موجز أعمار قصيرة، نلهث كما لغة كي لا تنطفئ فنخسر حواراً مع لغة أخرى هي الذوبان، وعندئذ تتساءل شمعة ما: لا أدري من يذوب حقاً أنا، أم الجالسون أمامي؟! ويتفرج جالس عليها يصرخ بأسى: هو عمري الذي يذوب أمامي!

ما تبثه الشمعة من نور ضئيل لايفيض عن حاجة الحجرة أو المكان، يكفي بضع صفحات من كتاب ليقرأ، بخشوع وانتباه ليس هنا من فضاء افتراضي يحيرنا بتعدد مساحاته ومفارقات سطوره وعناوينه، فليفرح الكتاب عند بعضنا على الأقل، إنه عاد لتداعبه الأصابع بحنان ورقة، وترقبه العيون بشغف نادر. يا لهذه الشموع، التي يجيء بها زمن تتنازه فيه (الحداثة) وما بعدها نظرياً، كم لها من ديون كثيرة في أعناق القراءة، وفي لحظات تشرب القهوة فيها على مهل، عدنا بالزمن أم عاد بنا، هي لحظة تشبه انكشافاً مع (أنا) منكسرة، قلقلة، ساهمة تكاد تتفلت من ذواتها  بشر متعبون من كهرباء تأتي ولا تأتي، لتبثّ صبراً، وتشي بفقه انتظار. ولحسن الحظ إن لشموعنا المعاصرة هواجس تشبهنا بل تكاد تنطق لفرط آلامها الصامتة، لكنها تعطي ولا تأخذ بشفافية تملأ الصمت بندائها الخافت وإيقاعها الجواني الذي تدركه الروح الساحرة والحالمة. وليست كشمس الشتاء البخيلة. إنها لتنسكب في الأرواح وفي قلب الظلام، كما نشيدٍ خفي لكنه سرمدي، ليشرق حرف أو يثمر بوح، وتلعن العتمة بازدراء عال. في عرائها المكشوف، تذكرك  الشموع  بكثافة الألم، وبندرة الفرح وبسلام داخلي نعثر عليه مصادفة ليصبح ضرورة. تتماهى الشموع مع ذواتنا، ولرائحة نورها في ظلام طارئ سخرية لا حد لها. والسخرية من الظلام لمجرد شعاع يظل يضيء ويرفع غيمتها  الشمعة  هي سخرية مركبة، إذ تصبح أرواحاً تتجاوز ضيق الأمكنة والأزمنة لتجهر بعشق الحياة. فهل تمنح حقاً تلك الناحلات اللاتي يذبن خجلاً ويتوارين داخلنا، تلك الثقافة التي يجدها البعض اضطراراً، وآخرون ضرورة؟!

أقول هامساً: علّها مصابيح (ديوجين) الأخيرة التي يمكن أن تضيء للمبصرين طريقهم، هي لا تسخر من (فجر الكهرباء)، لكنها تواسيه  تواسي نفاد صبره، وسوء فهمنا له. والجلي أن لوثة (سوء الفهم) قد وجدت مرتعاً خصباً لها في كل ما يمتّ إلى مشتقات الحداثة بصلة. هل قصدنا الأدب الحديث، كما الأغنية، وعلاقات البشر.. في معظمها؟ ربما.

العدد 1105 - 01/5/2024