حلم العودة إلى الدولة العلية

كل ما خطط له العثمانيون الجدد كان ممتازاً على الورق، استخدام قوتهم الناعمة للتغلغل في المجتمعات العربية، وذلك عن طريق المسلسلات التركية المدبّلجة إلى اللغة العربية، ومن ثم العمل على نشر الثقافة ونمط الحياة التركية في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لينتقلوا بعدئذ إلى الخطوة التالية التي تجعل من البلدان العربية المكان المناسب لتصريف منتجاتهم، والأرضية المثلى لاستثماراتهم التجارية والصناعية. في الوقت نفسه تقوم الحكومة التركية بامتصاص فائض الرأسمال العربي في تطوير وتحديث بناها التحتية. ولتكون نتيجة سياستهم غير المباشرة هذه، استخدام العرب ورقة ضغط في مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوربي، فالغرب الذي لم يقبل بانضمام دولة علمانية بهوية إسلامية، كما تعرّف تركيا نفسها، سيقبلها مرغماً بعد أن تكون قد رسّخت أقدامها في الشرق كقوة إقليمية ذات عمق إسلامي.

ولكن إلى أي مدى يمكن للغرب أن يقبل تركيا في صفوفه؟ وما هو الدور المرسوم لتركيا في مراكز صنع القرار الغربية؟ تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي NATO من العام ،1952 والقاعدة المتقدمة للولايات المتحدة في صراعها ضد الاتحاد السوفييتي سابقاً، ونقطة الوثوب إلى آسيا الوسطى والشرق الأوسط لاحقاً (بفضل قاعدة أنجرليك الجوية). ومن ثم تحولت إلى رأس الحربة في حرب الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على الدول المعارضة للسياسات الإمبريالية التي ينتهجونها في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز، وفي مقدمتها روسيا والصين. وإذا علمنا أن كل الحروب التي خاضها حلف الناتو بعد انتهاء الحرب الباردة كانت ضد بلدان إسلامية باستثناء حرب البلقان، وإذا علمنا أن تركيا هي الدولة المسلمة الوحيدة في هذا الحلف، نستطيع أن نطرح التساؤل التالي: ما هو الدور المنوط بتركيا أن تلعبه في المنطقة؟ هل هو دور المرشد والدليل في العالم الإسلامي حتى يتفادى الناتو إثارة النعرات الطائفية والحزازات الدينية وللعمل على تجاوز الفروق الثقافية، أم أن دورها يقتصر فقط على تقديم الغطاء لتلك التجاوزات ووضع التبريرات لها؟

هذا الدور أصاب العثمانيين الجدد بالضياع، فهم يملكون الكثافة السكّانية، الآلة العسكرية، الموقع الاستراتيجي، الثروة المادية والمعنوية، التي يحاولون استغلالها للتأثير على قرارات الدول المجاورة لهم، وللعمل على خلخلة أمنهما واستقرارهما، عبر تأليب مكوناتها السكانية العرقية والدينية بعضها ضد بعض، لجعلها تدور في فلك السياسة التي يرسمها العثمانيون الجدد في تركيا. وظنّوا أن باستطاعتهم تصدير نموذجهم إلى دول الجوار عبر اللعب على المتناقضات واستغلال الاختلافات بين المكونات الاجتماعية والعرقية والدينية في تلك الدول. ولكن هذه السياسة انعكست سلباً على العثمانيين الجدد، فقدأصبحت خياراتهم صعبة وهامش مناورتهم ضيقاً للغاية، لدرجة أن طموحاتهم بأن تصبح تركيا قوة إقليمية أصبحت موضع شك. فتدخّل العثمانيين الجدد السافر في سورية بدأ يكشف البعد الطائفي والعنصري لتوجّههم السياسي، هذا التوجّه بدأ يواجه بمعارضة داخلية شديدة، فالمعارضة التركية ممثلة بحزب الشعب الجمهوري ترى أن ما يحدث في سورية هو شأن سوري داخلي وليس شأناً تركياً داخلياً. وإن تدخّل العثمانيين الجدد السافر سيحول المشكلة السورية إلى قضية داخلية تركية ستزيد من الاستقطاب الداخلي والتوتر السياسي الحاصل في  المجتمع التركي بين الأتراك والأكراد من جهة، وبين السنّة والعلويين من جهة أخرى. إذ إن المعارضة متخوفة من الأهداف الخفية التي يضمرها قطبا العثمانيين الجدد أردوغان – أوغلو، والواجهة السياسية لهم حزب العدالة والتنمية لتغيير النظام السياسي في تركيا من جمهوري برلماني إلى جمهوري رئاسي. هذا إضافة إلى أن الشعور الطائفي بدأ يتعاظم في منطقة لواء إسكندرون، إن بسبب تحويلها إلى قاعدة خلفية للعمليات الإرهابية في سورية وملاذ آمن ونقطة انطلاق للإرهابيين والمرتزقة القادمين للتخريب والتدمير فيها، أو بسبب استعمال أردوغان لمفردات طائفية ومذهبية أثناء مقاربته للأزمة في سورية فهذه الأهداف تصرف غبي لا يقدم عليه مبتدئ في العمل السياسي، مما جعل السياسي المعارض التركي ميرست سوكمن أوغلو يتساءل عما إذا كان هناك مؤامرة يجري إعدادها من أجل العمل على إحداث شرخ أهلي وتحريض العلويين والسنّة على القتال في تركيا. مستحضراً مجزرة مارا التي حدثت عام 1978 بحق العلويين في تركيا.

من المؤكد أن العثمانيين الجدد قد نجحوا في إعادة الروح إلى الدولة العثمانية، ولكن ليس إلى أيام مجدها وعزّتها، بل إلى لحظات ضعفها وانكسارها، حين قررت الدول العظمى آنذاك إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط  بواسطة اتفاقية سايكس – بيكو، مستخدمة الخطوط القومية تارةً، والمذهبية تارةً أخرى، وما رافق ذلك من تفتيت الدولة العثمانية. هذه اللحظات بدأت تطل برأسها من جديد، ففشل سياسة أردوغان – أوغلو في سورية زاد من احتمال خطر نقل الصراع المسلح إلى الداخل التركي، وما يرافقه من احتمال تفتت الدولة التركية ذاتها إلى أقاليم قائمة على أسس قومية ومذهبية. كل هذا جعل الأتراك يعودون إلى المربع الأولى في تاريخهم وأساطيرهم المكونة للعقلية التركية، ليستلهموا منهما القوة والعزيمة، الحكمة والدهاء، حتى يتمكنوا من مواجهة العواصف والأعاصير التي بدأت نذرها تلوح في الأفق، في محاولة لإعادة بناء الشخصية التركية، وتعريف هويتها ودورها الحضاري في المنطقة والعالم. هل هو دور قائم على سياسة التعاون والتكامل والإخاء مع شعوب المنطقة، أم هي سياسة تستلهم الروح الطورانية العدوانية التوسّعية؟ هذه السياسة التي قامت على أشلاء الآخر المخالف قومياً ودينياً وحتى مذهبياً، السياسة التي بدأت على يد جمعية الاتحاد والترقي التركية ومازالت مستمرة حتى الآن على يد أحفادهم العثمانيين الجدد؟

جواب هذا السؤال سيقرره الأتراك وحدهم.

العدد 1104 - 24/4/2024