العثمانيون الجدد حصاد عقد في السلطة «2»

وضع حزب العدالة والتنمية (ذو الجذور الإسلامية) منذ وصوله إلى السلطة في أنقرة، استراتيجية إدارة العلاقات السياسية الداخلية والخارجية، على النحو التالي: بناء الوحدة الداخلية وتحقيق السلام بين مختلف أطياف القوميات والطوائف التركية، والعمل على اكتساب الشرعية الإقليمية، والتعاون الوثيق مع أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

وبالنسبة للنقطة الأولى التي تمثل التحدي الأكبر لتركيا فهي تتفرع إلى قضيتين، القضية الكردية، وقضية الأقليات الدينية. وقد عمل حزب العدالة والتنمية على بذل جهود مكثّفة من أجل حل القضية الكردية التي بدأت تقرع أبواب هضبة الأناضول المعقل التقليدي للأتراك، مستخدماً الرابطة الإسلامية عقاراً مخدّراً لهذه المشكلة، إذ يعترف للأكراد ببعض الحقوق الثقافية واللغوية، ويتجاهل أي طموح سياسي لهم، هذه السياسة أتت كدبلوماسية ناعمة في وجه الحلول الطورانية التي اعتمدتها الحكومات السابقة، وبموجبها اعتبرت الأكراد مجرد (أتراك الجبال) وعملت على دمجّهم بالقوة في المجتمع. أما بالنسبة للأقليات الدينية، فأبسط ما يقال حول هذا الملف، أن تركيا القومية التي أعادت الأذان للغة العربية ما زالت مترددة حتى الآن في السماح للأقليات بممارسة شعائرهم الدينية بلغاتهم القومية (الأرمن والسريان واليونان).

 

حكومة حزب العدالة والتنمية وقصة الدم الأزرق

لكن حكومة حزب العدالة والتنمية بدأت تنجرف نحو ممارسة سياسات عنصرية وطائفية تجاه الأقليات الدينية والقومية، وتجلى ذلك في ثلاث محطات رئيسية:

 الأولى عندما دخلت الحكومة التركية والناشطين في حقوق الإنسان وأحزاب المعارضة في سباق مع الزمن لحل قضية مجزرة سيواس (1)، فقد حاولت الحكومة التسويف والتأجيل بهدف إسقاط القضية بالتقادم. أما المعارضة فحاولت الضغط للتسريع في إجراءات المحاكمة قبل سقوطها. علماً أن هذه الجريمة توصف حسب القانون الدولي بجريمة ضد الإنسانية، وهذا النوع من الجرائم لا يسقط بالتقادم. وقد بلغ استهتار حكومة حزب العدالة والتنمية بهذه القضية وبدماء ضحايا المجزرة إلى الحد الذي جعل المعارضة تطلب من الحكومة تحويل موقع المذبحة إلى متحف، وبعد أن وعد أردوغان بالنظر في الموضوع (نكث في وعده) وتم افتتاح (مطعم شاورما) في موقع المذبحة (2).

أما المحطة الثانية، فكان إصدار محكمة تركية لقرارها في قضية اغتيال الصحفي الأرمني المعارض هرانت دينك (3) رئيس تحرير صحيفة (أغوس) على يد مجموعة (4) تنتمي إلى ميليشيات قومية شوفينية، فقد عدّت القضية جنائية لا سياسية، فحكمت بالسجن المؤبّد على شخص واحد بتهمة القتل العمد مع تبرئته من جريمة الانتماء لتنظيم مسلح. وبرّأت باقي أعضاء المجموعة. إذ حكمت على مخطط العملية وأفرجت عن مطلق النار بذريعة أنه يبلغ الثامنة عشرة . هذه القضية جعلت الكثير من المفكرين والكتاب الذين دعموا حكومة حزب العدالة والتنمية وراهنوا على قدرتها على إحداث التغيير والإصلاح يراجعون مواقفهم، معتبرين أن ما يحدث هو نكسة إلى الوراء وعودة إلى الممارسات القومية المتطرفة، ولكن بقناع ديني هذه المرة.

ترافقت هذه الأحداث مع المجازر البشعة التي تعرضت لها قومية الروهينجا المسلمة في بورما، والتي جعلت الحكومة التركية ترسل وفداً، ترأسته السيدة أمينة أردوغان، حرم رئيس الوزراء التركي، يرافقها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، محمّلاً بكميات كبيرة من الأدوية والمساعدات المادية والغذائية. وترافقت هذا الزيارة مع انتشار صور للسيدة أمينة وقد أجهشت بالبكاء وهي تستمع لقصة أحد الناجين من المذبحة، الأمر الذي جعل البعض يتساءل: أليس من الأجدى للحكومة التركية أن توقف المذابح التي ترتكب بحق الأكراد وباقي الأقليات في تركيا أولاً، قبل الذهاب إلى الخارج في محاولة لاكتساب شعبية زائفة، وأن تذرف الدموع على اغتيال القضاء التركي خدمةً لبعض المجموعات المتنفّذة في الدولة التركية؟ كل هذا جعل الصحفي حسن جمال في جريدة (ميللييت) يلفت الانتباه إلى أنه للمرة الأولى لا توجد ردة فعل لدى الأوساط الإسلامية تجاه قرارات القضاء في مجزرة سيواس ولا تجاه قضية اغتيال الصحفي هرانت دينك ولا ضد المجازر ضد الأكراد. إذ قال: (هذا يعني أنك تستطيع أن تحرق العلوي وتقتل الأرمني والكردي وتفلت من العقاب).

 

بين معايير كوبنهاغن وغرائز الأناضول

وضع الاتحاد الأوربي في لقاء قمة 1993 في كوبنهاغن ثلاثة معايير رئيسية لقبول العضوية في الاتحاد الأوربي:

* معايير سياسية: إذ ينبغي على الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوربي ضمان استقرار مؤسساتها، والحفاظ على الديمقراطية، وأن تتعهد بضمان المحافظة على دولة القانون، ويجب عليها ضمان حقوق الإنسان وحماية الأقليات.

* معايير اقتصادية: إذ يجب أن تتمتع الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوربي باقتصاد سوق مستقر، كما لابد لها من أن تكون قادرة على الصمود والمنافسة في السوق الداخلية الأوربية.

* معايير Acquis وهذا يعني أنه يجب على الدولة المرشحة لعضوية الاتحاد الأوربي أن تكون على استعداد لتكييف إدارتها وجميع قوانينها مع قوانين الاتحاد الأوربي.  

ونأتي إلى المحطة الثالثة، وهي تجدد الاشتباكات العنيفة مع حزب العمال الكردستاني، بعد فشل كل الجهود المبذولة أمام تعنت الحكومات التركية المتعاقبة التي لا تزال ترفض حتى الاعتراف بالأكراد كشعب ذي تاريخ وحضارة وتراث. إضافة إلى أن ظواهر العصيان المدني بدأت تظهر في جنوب شرق تركيا ذي الغالبية الكردية مترافقة مع إضراب 700 سجين سياسي كردي عن الطعام، تضامن معه النواب الأكراد وقادة الأحزاب السياسية المعارضة. كل هذا لم يحرك في موقف رئيس الحكومة التركية قيد أنملة ، وقد شكل موقفه انتهاكاً صارخاً للقوانين الأوربية. ولم يكتف أردوغان بذلك بل بدأ يطالب بإعادة العمل بعقوبة الإعدام، هادفاً من ذلك تحقيق هدفين: أولهما الانتقام من حزب العمال الكردستاني عن طريق إعدام زعيمه عبد الله أوجلان، الذي فشلت كل الطرق والمحاولات في تطويّعه لتقديم التنازلات للحكومة التركية بهدف تصفية القضية الكردية. والهدف الثاني هو التقرّب من التيار القومي الطوراني، الذي لا يرى حلاً للقضية الكردية إلا عن طريق القوة، بهدف الفوز بأصواتهم في الانتخابات التشريعية القادمة. المفارقة في الموضوع أن إلغاء حكم الإعدام كان هو التعديل الوحيد الذي نفذّته الحكومة التركية من بين 28 تعديلاً رئيسياً كانت مطالبة بتحقيقها قبل مناقشة شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوربي.

أردوغان الذي بدأ ينتهج سياسة تعتمد على استثارة الغرائز المذهبية وتسلك طريق العنصرية القومية(5)، قرر القيام بإصلاحات تتناسب ورؤيته لتركيا وتخدم طموحه الشخصي. فبعد أن تراجعت جاذبية ووهج الاتحاد الأوربي في عيون الأتراك عقب الأزمة الاقتصادية العالمية عام ،2008 قررت حكومة حزب العدالة والتنمية اعتماد خيار العودة إلى الشرق، حيث بدأ النفوذ التركي يتصاعد والتطلعات الإمبراطورية لحكومة أردوغان تنمو… وبدأ سكان الأناضول يتحدثون عن عودة (العثمانيين الجدد).

 

الهوامش:

1- مجزرة سيواس أو مجزرة فندق ماديماك، هي جريمة طائفية حدثت عام ،1993 عندما هاجمت جموع طائفية ندوة ثقافية كان يشارك فيها الكاتب العالمي الساخر عزيز نيسين، وقامت بمحاصرة الفندق وإحراقه، وترقّبت هذه الجموع خروج المجتمعين الناجين من الحريق للاعتداء عليهم بالضرب، حتى إن رجال الدفاع المدني شاركوا الجموع الطائفية بالاعتداء على الناجين من المشاركين بالندوة. وكانت حصيلة المجزرة 37 شهيداً من كبار مثقفي تركيا المنتمين إلى القومية الكردية والأقلية العلوية.

2- في 13/3/2012 أسقطت محكمة الجنايات في أنقرة القضية بمرور الزمن.

3- اغتيل في 19 كانون الثاني 2007.

4- هذه المجموعة (المعروفة باسم أرغينكون) دارت الشبهات حول ارتكابها مجزرة دار (القمة) للنشر التي ذهب ضحيتها ثلاثة من المسيحيين، وجريمة اغتيال الراهب سانتورو في طرابزون.

5- تراجعت حكومة حزب العدالة والتنمية عن الاعتراف بمراكز العبادة لبعض الأقليات المذهبية في تركيا، وعدّتها مراكز ثقافية. ولا تزال حتى الآن تمنع إعادة افتتاح بعض الكنائس لطائفتي الأرمن واليونان التي أُغلقت بعد مذابح ،1915 وإعادة افتتاح مدرسة الرهبان التابعة لطائفة الروم الأورثودكس في أسطنبول التي أُغلقت بعد انقلاب 1960.

العدد 1104 - 24/4/2024