دول صناعية جديدة… ولكن!

نظريات عدة، ومئات المؤتمرات والدراسات المتخصصة، حاولت الإحاطة بمفهوم التنمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي،  تأثر معظمها بانقسام العالم إلى قطبين بارزين،  لكل منهما نظريته التنموية المخالفة.. بل المناقضة للآخر.  وتحول مفهوم التنمية إثر ذلك-كغيره من المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية-  إلى أطروحات حزبية تتباين فيها التعاريف والأهداف والوسائل.

ففي حين أكد منظرو الرأسمالية دور الرأسمال الخاص، والمبادرة الفردية في تطوير قطاعات الإنتاج والخدمات التي تقطر باقي القطاعات الثانوية الأخرى، وتخلق فرص العمل والاستهلاك والادخار، في ظل اقتصاد السوق الحر وآلياته التي تحدد المستوى العام للأسعار. ركز الاشتراكيون على دور الدولة التي يقودها حزب الطبقة العاملة، في تحقيق التنمية الاقتصادية عن طريق الاستثمارات الحكومية في الصناعة والزراعة والقطاعات الأخرى، وتوجيه العائد من هذا الاستثمار إلى تحسين الأجور والظروف المعيشية لأفراد المجتمع الاشتراكي الذي تنتفي فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتحدد فيه الأسعار إدارياً.

حدثان بارزان

في تسعينيات القرن الماضي، فقدت نظرياً التنمية القائمة على حرية المبادرة الاقتصادية معناها، بسبب سيطرة الليبرالية الاقتصادية الجديدة، في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، التي همشت قطاعات الإنتاج الحقيقي لصالح سيطرة القطاعات المالية والمصرفية، متحررة من جميع القيود التي فرضتها معاهدة (بريتون وودز)، وكذلك بسبب تراجع دور الدولة الاجتماعي الذي طور في الدول الأوربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مجتمع (الرفاه الاجتماعي).  وأدت الأزمات العميقة التي ضربت النظام الرأسمالي الريعي والدول الآخذة ببرامجه الاقتصادية إلى شكوك متزايدة بالنظريات التنموية التي روجتها الرأسمالية العالمية.

إن الحافز الرئيسي على الإنتاج في النظام الرأسمالي، الذي يتمثل بالإنتاج الصناعي والخدمي والتسويقي، قد انتقل في حقبة عولمة الأسواق إلى مستوى جديد، هو حافز التراكم المالي دون المرور المباشر بالعملية الإنتاجية. وهو التراكم الذي تشرف عليه نخبة من المصارف والشركات،  وحفنة من المضاربين دون رقابة من الدولة وأجهزتها المالية والاقتصادية. ليس ما نراه اليوم إلاّ قانون السوق بشكله المتوحش، السوق المضارب بالأسهم والسندات والأوراق المالية الأخرى التي تبتدعها الشركات والمصارف الاستثمارية الأمريكية، وتنشرها في أسواق العالم مفخخة بأسعار فائدة مغرية.  في حين تراجع الاقتصاد الحقيقي القائم على الإنتاج والتوزيع والتبادل من خلال التجارة العالمية. وتبلغ حالياً المبالغ الموظفة في أسواق المال والبورصات العالمية ستة أضعاف الناتج الإجمالي  العالمي.  

كذلك أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى وضع نظرية التنمية القائمة على احتكار الدولة للعملية الاقتصادية على الرف، بانتظار تجارب أخرى أكثر واقعية، بعد أن ظهرت فجوات هائلة في تطور القطاعات المنتجة..وفقدان الحوافز لتحديث وسائل الإنتاج، وضعف التراكم الذي يؤدي عادة إلى زيادة رفاهية المواطن.

وهكذا راحت الدول النامية تبحث عن أساليب أخرى لتطوير اقتصاداتها ومجتمعاتها، مستندة إلى الظروف الجديدة التي أفرزتها العولمة الاقتصادية والمالية، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وظهرت نظريات تنموية خليطة ترتكز على انتهاج اقتصاد مختلط تندمج فيه آليات السوق مع  التخطيط للتنمية الاجتماعية،  أي مشاركة الرأسمال الخاص وقطاع الدولة في توليد فرص جديدة لزيادة الدخل الوطني، عن طريق تشجيع الصناعة والتجارة والاستثمار وفق اقتصاد السوق، وقيام الدولة بالإشراف على إعادة توزيع الدخل الناتج بين الفئات الاجتماعية، عبر شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً كالتعليم..والضمان الاجتماعي والصحي واستهداف بؤر الفقر، تلك المهام التي لا تدخل في برامج الرأسماليين وخططهم.

تجارب الدول الصناعية الجديدة

في ظل ظروف هيمنة القطب الأمريكي وقيادته للاقتصاد العالمي، وسياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة،  بدأت بعض الدول النامية في القارة الأمريكية وآسيا بالظهور والمساهمة بشكل فاعل في الناتج الإجمالي العالمي.  بعض هذه الدول الأمريكية الجنوبية استند إلى التنمية المستقلة والاعتماد على الذات، وعلى توطين الصناعات الأمريكية. وبعضها الآخر تحول إلى واحة  للشركات الصناعية الكبرى في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية الكبرى الباحثة عن منصات إنتاجية أقل تكلفة، تسمح لها بالبقاء في الصراع الشرس لاقتسام عوائد الإنتاج والتبادل العالمي. فقد راحت الشركات العابرة للقارات توزع أنشطتها في مناطق العالم  ما دام ذلك سيؤدي في النهاية إلى تخفيض  تكاليفها الاستثمارية ونفقاتها الإنتاجية، مما أدى إلى نشوء نظام تصنيع عالمي يرتكز على أرضية تصدير النشاط الصناعي  الذي بدأته الشركات المتعددة الجنسيات في المناطق ذات الأجور المنخفضة باستخدام التكنولوجيا المتقدمة للاتصالات التي تسمح بتجزئة عمليات الإنتاج، وبالتالي انتقال القدرة التصنيعية باتجاه لامركزية مواقع الإنتاج.

ارتفعت في هذه الدول نسب النمو، وازدادت حصتها الدولية في الإنتاج وتصدير السلع المصنعة، معتمدة على الكثافة العمالية، وصناعة التجميع المعدة للتصدير مع التركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة العالية. وقد اصطلح على تسمية هذه البلدان بالدول الصناعية الجديدة، وتضم كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ والبرازيل والأرجنتين والمكسيك ودولاً أخرى.

لقد بدأت دول أمريكا اللاتينية تصنيع بدائل المستوردات في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد الاضطرابات الاقتصادية العالمية الناتجة عن الركود الكبير إثر الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929. إذ هبطت صادرات القارة من المواد الأولية بنسبة 60%، وأصبح الاقتراض الخارجي متعذراً، فأوقفت هذه الدول استيرادها من الخارج، ونشطت في سبيل إنتاج البدائل المحلية.  وفي منتصف الخمسينيات عمقت تحولها الصناعي عن طريق اجتذاب موجات جديدة من الاستثمارات الأجنبية وخاصة من الولايات المتحدة، حيث تمركز المستثمرون على مشاريع تصدير المعادن والبترول والزراعة، ثم انطلقوا بعد ذلك في أواسط الستينيات إلى صناعات السيارات والمواد الكيماوية والآلات والمواد الصيدلانية، التي توجهت بصادراتها بالدرجة الأولى إلى أسواق القارة الجنوبية والولايات المتحدة.              

أما الدول الصناعية الآسيوية فقد اتبعت نمطاً مغايراً، فهي لم تبدأ نموها السريع حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، بعد أن رزحت  فترة  طويلة تحت الاحتلال الياباني. ولعبت المساعدات الأمريكية المكثفة بعد الاحتلال دوراً في توجيه سياسة التصنيع في تلك الدول ،  فاتجهت كوريا وتايوان وهونغ كونغ إلى الصناعات التصديرية التي تعتمد على العمالة المكثفة، كصناعة الملابس والتجهيزات الإلكترونية. وفي مراحل لاحقة حققت هذه الدول النجاح في الصناعات الثقيلة كصناعة الفولاذ والسيارات والبتروكيماويات وبناء السفن وأجهزة الكومبيوتر.  وقد لعبت الرساميل الأجنبية، لاسيما الأمريكية منها، وقروض الصناديق الدولية والعمالة الرخيصة دوراً محورياً في انطلاقة هذه الدول وتحولها إلى قوة تصديرية كبيرة.(1)

لقد بلغت حصة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي للدول الصناعية الجديدة في القارة الأمريكية وشرق آسيا  35% في عام ،1990 وهذه النسبة تزيد على متوسط حصة الصناعة في الناتج الإجمالي للدول الصناعية الكبرى، بينما تناقصت حصة الصناعة التحويلية في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي، حتى بلغت  23% في الدول الصناعية الجديدة  .       

لقد شجع النمو السريع لهذه الدول الاستثمارات الأجنبية على إنشاء منصات تصنيعية للتصدير بتمويل من المصارف. ومع زيادة تطور الصناعة باتجاه الاعتماد على التطور المتسارع للتكنولوجيا، ازدادت الصادرات الصناعية تعقيداً، فتراجعت صادرات المواد نصف المصنعة والمواد الكيماوية، وارتفعت صادرات الصناعة الثقيلة والأجهزة الدقيقة، واستقطبت أسواق المال في الدول الصناعية الجديدة بعد نجاحها في زيادة حصتها في التجارة العالمية مختلف أنواع المتعاملين. فالمصارف العالمية بدأت حملة إقراض كبرى باتجاه هذه الدول،  وصناديق الاستثمار الدولية الباحثة عن الفرص راحت تمول المشاريع الصناعية ، وقراصنة البورصات  والقروض القصيرة الأجل وجدوا فرصتهم في العوائد المرتفعة. أما الولايات المتحدة والمصرف الدولي فراحا يضعان شروط التحول الهيكلي لاقتصادات هذه الدول وفق بنود (توافق واشنطن). فتم خصخصة المؤسسات العامة، فقد تراجعت نفقات الدعم الاجتماعي للطبقات الأكثر فقراً. ففي المكسيك-على سبيل المثال- لم تصبّ المساعدات والقروض الممنوحة من مؤسسات العولمة والولايات المتحدة في مصلحة العمال وصغار المنتجين ، فقد تراجعت القدرة الشرائية لديهم بمقدار الثلث، ومع تزايد ديون الدولة وارتفاع نسبة التضخم، فقد ثلاثة ملايين مكسيكي فرص عملهم، وتبين أن هذه التحولات الموصى بها من الخارج لا تخدم سوى النخب. وهكذا دخلت المكسيك النفق المظلم في عام ،1994 وتدخلت لإنقاذها  صناديق الإقراض العالمية والحكومات، لاسيما إدارة الرئيس كلينتون، وخصّصت المكسيك بقروض تجاوزت(50) مليار دولار.  (2) 

في الدول الآسيوية كان الاعتماد على القروض الخارجية بالعملات الصعبة، وخاصة القروض القصيرة الأجل التي استخدمت في مشاريع طويلة الأجل، واخترقت المصارف الأجنبية وسماسرة البورصات العالميين أسواق المال في تلك الدول، وكانوا سبباً مباشراً في الأزمة الاقتصادية التي هزت (نمور آسيا) عام ،1997 مطيحة بأسعار الصرف والقروض وكل أشكال الائتمان، ومسببة أزمات اجتماعية ومعيشية كبرى عانتها شعوب تلك البلدان.

 صحيح أن ظهور هذه الدول ساهم في نزع سيطرة الاقتصاد الأمريكي والأوربي على الأسواق الصناعية العالمية، وأمكنه أن يؤدي دوراً في النضال الذي تخوضه بلدان نامية كبرى من أجل عالم متعدد الأقطاب، لكن رغم النجاح الذي  حققته تجربة البلدان الصناعية الجديدة في تحول هذه الدول إلى قوة صناعية، تتزايد مساهمتها في إجمالي الإنتاج الصناعي العالمي، إلاّ أن تأثير الخارج فيها كان ملموساً. ولعبت الشركات المتعددة الجنسيات، وخاصة الأمريكية منها، دوراً أساسياً. إضافة إلى مؤسسات العولمة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، والمصارف العالمية والقروض الخارجية التي كانت سبباً رئيسياً في أزمات عميقة هزت أركان هذه الدول، وتسببت بمعاناة شديدة للطبقة العاملة وجميع فئات السكان. كذلك لم تؤدِ هذه التجربة إلى تنمية اجتماعية توازي التطور الصناعي، فما تزال شعوب هذه الدول، وخاصة قوى العمل والفئات الفقيرة والمتوسطة تعاني الفقر والتخلف، مما يجعلنا نشكك في اعتماد هذه التجربة نموذجاً تنموياً يصلح للتطبيق في الدول النامية الأخرى التي تريد الحفاظ على قرارها الوطني المستقل بعيداً عن هيمنة الخارج.

المراجع:

1 –  من الحداثة إلى العولمة،  تيمونز روبيرتس- إيمي هايت.

2- مجلة (نيوزويك) 18/3/ 1996.

العدد 1105 - 01/5/2024