طوابير الناس بحثاً عن الدولار… من أين ظهرت هذه الليرات السورية؟

هكذا ودون مبرر اقتصادي ونقدي، حصلت تطورات مثيرة للتساؤل استدعت اصطفاف الناس طوابير أمام عدد من شركات الصرافة، يسعون لاستبدال ليراتهم السورية بالدولار أو اليورو. إذ قفزت أسعار صرف الليرة من جديد إلى الواجهة، وتراجع سعر صرفها أمام العملات الأجنبية بمقدار 6 إلى 7 ليرات، قافزاً من 68 إلى 75 ليرة مقابل الدولار في السوق السوداء. 

ولأول مرة تغيب التحليلات والتبريرات غير الاقتصادية والنقدية عن هذه الحالة، والتزم المصرف المركزي الصمت كعادته، مكتفياً بعقد اجتماع ضم الفعاليات التجارية والصناعية، وأكد استمراره بتزويد شركات الصرافة بالقطع الأجنبي. وما يلفت الانتباه أنه بالتزامن مع تأكيدات المركزي الآنفة الذكر، إلا أن حالة الازدحام أمام شركات الصرافة لقاء مبلغ يتراوح بين 500 و الألف دولار كانت تستدعي أحياناً التعامل بطرق غير إنسانية مع المنتظرين حصولهم على المبلغ المطلوب من القطع الأجنبي، كما حدث في أزمة 2005. وسجلت بعض الحالات التي استخدمت فيها العصي  كما نقل ل (النور) بعض المختصين بالقضايا النقدية  ما يعكس عدم تلبية حاجات المواطنين من جهة، وفشل طرائق التدخل التي يتبعها المركزي من جهة ثانية، إضافة إلى بروز تساؤل جوهري لابد منه يتعلق بمن هي الشريحة التي تستفيد من بيع وشراء القطع الأجنبي الآن؟

الهجمة على شراء الدولار، هو التبرير الذي يحصر المركزي نفسه فيه ودائرة الطباشير التي لا يتجاوزها عادة، في كل مرة يرتفع فيها سعر صرف الليرة أمام الدولار، لاسيما خلال الفترة الماضية، وبالذات منذ اتخاذ الحكومة السابقة في أيلول 2011 قرارها الشهير بعدم تمويلها للمستوردات، ومن ثم تراجعها عنه، ووضعها شروطاً للحصول على القطع الأجنبي فيما بعد، ما أدى إلى خلق أزمة قطع مازالت منعكساتها قائمة حتى الآن، يضاف إليها تنصل المصارف من تمويل المستوردات. لكن أصحاب المدخرات الصغيرة، يفترض أنهم استبدلوا العملة الوطنية بأخرى من القطع الأجنبي، ولم يبقَ لديهم ما يستبدلونه، ولذلك انعدمت حالة القطيع المعروفة في علم النقد التي تدفع بالناس إلى البحث عن العملة الأجنبية أثناء الأزمات. وجود حالة القطيع، في المرات السابقة لأزمة أسعار صرف الليرة، كانت حالة طبيعية، حالة لو لم تكن موجودة لتحدثنا عن خلل كبير، وخطأ لايمكن الاستهانة به لأنه يعاند العلوم النقدية. لكن بعد أن قفز السعر قبل أشهر إلى نحو 110 ليرات أمام الدولار، وخسارة الليرة السورية مابقي من قيمتها، لم يعد الارتفاع أو الهبوط يؤثر كثيراً على العملة، أو على أصحاب المدخرات، لأنه في ذلك الوقت من خسر قد خسر، والرابحون معروفون. غياب هذه الحالة في الأسبوع الماضي دفع المركزي إلى الصمت، ولم تتفاعل القضية، ولم تصل إلى قضية رأي عام كما هو معروف، رغم أن شروطها متوافرة. وهذا مايبرر الاستنتاج الوحيد الذي لم نجد غيره مقنعاً في هذه الآونة، وهو الارتباط الوثيق بين الارتفاع الممنهج لأسعار الصرف والشرائح التي كانت تبحث عن القطع الأجنبي، وتشتريه بسعر منخفض من شركات الصرافة لتبيعه بسعر مرتفع بالسوق السوداء، أي المضاربة بلغة السوق.

من يملك من السوريين اليوم مالاً؟ هو السؤال الذي يمكن بوساطته الإجابة عن أسباب ارتفاع سعر الصرف، وظهور مال لدى الناس الذين يعانون الأمرَّيْن، وكادت أسعار المنتجات والسلع بالأسواق أن تأتي على كل دخولهم، فمن أين ظهرت هذه الحاجة إلى الدولارات التي وصلت أحياناً إلى 23 مليون دولار، بينما المركزي لم يضخ سوى 13 مليوناً، فظهرت الفجوة في السوق، الكفيلة بتسخين السعر، وزيادة الطلب، كما أن إحجام الشركات عن البيع ليوم واحد، أدى في نهاية المطاف إلى زيادة  السعر.

هناك من يحاول زرع الأمل في سعر صرف الليرة، لكنه يستخدم أسلوباً قديماً وفجاً، عبر محاربة الدولار، وفي هذا تبسيط لاقتصاد متهم بأن سكتته القلبية قريبة، في حال ازداد الوضع الداخلي تعقيداً، فالبكاء على الاقتصاد الوطني، والعملة المحلية، هو مجرد تمرينات أولية، وأحادية الجانب، على البكاء الكبير في حال سارت الأمور لا كما نشتهي، فخسارة الاقتصاد أبسط بكثير من خسارة الوطن الجريح، المكلوم. بينما هناك من يعمل ويسعى بكل قوة للاتجار بالدولار واللعب بأسعار صرف الليرة على المكشوف. ربما لأن قنوات تهريب العملة إلى الخارج مازالت مفتوحةً، وهناك من يعمل لعدم إغلاقها، لأن قوة المال أكثر بكثير من أية قوة أخرى سواء كانت قانونية أم وطنية، فالمال الفاسد يفتح الأبواب، ويرفع الحواجز، ويتسلل بالخفاء لكنه مرفوع الرأس.

سعر صرف الليرة، كما ليرتنا، لم يعد يحتمل الكثير من اللعب والتجريب، والضحك على الذقون، والاحتياطي من القطع الأجنبي، ثروة تمثل القرش الأبيض ليومنا الأسود، لكن هناك من يرى فيها ثروةً ممكنة للاستغلال، والسبيل إليها مشروعاً عبر العبث بأسعار الصرف عن طريق المضاربة، وشركات الصرافة التي تديرها بجدارة، وتقتنص الملايين من أمام المواطنين، وتستغل ثرواتهم.

العدد 1105 - 01/5/2024