المعارضة السورية… أين الخطاب الاقتصادي؟

تسعى المعارضة، في خضم الأحداث التي تشهدها الساحة السورية، إلى رسم مستقبل سورية في المرحلة المقبلة، من خلال طروحها ومبادراتها التي ترفع شعار الديمقراطية هدفاً ومطلباً رئيساً، لكن يغيب عن هذه الطروح خطة عمل واضحة تحدد ملامح المستقبل وترسم أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والمتابع للشأن السوري لا يجد حديثاً ما عن سياسات ما بعد (الثورة) بشكل عام، وبالأخص أن الخطاب مازال شبه خال من توجه اقتصادي يحدد مسار التوجه الاقتصادي الذي يمكن أن تتبعه المعارضة مستقبلاً، فيما لو حسمت صناديق الاقتراع الأمر لصالحها.

فإذا كان سعي المعارضة من أجل الحرية السياسية هو مفتاح نهضة الشعب وتقدم البلاد، فإن هذا التوجه لا يمكن عزله عن ضرورة وضع قاعدة اقتصادية واجتماعية، لأن الاقتصاد حجر الزاوية والعمود الرئيسي الذي يبنى عليه أي نظام سياسي معاصر، فتماسك الوضع الاقتصادي يعني قدرة الدولة على تلبية مطالب مواطنيها من الاحتياجات والخدمات والالتزامات اليومية. ويتأثر النظام الاقتصادي بالعوامل الثقافية والسياسية وبيئة العمل المؤسساتية السائدة في المجتمع.

فإذا كانت القوى المعارضة، على اختلاف مشاربها، تسعى لإحلال نظام سياسي ديمقراطي – يعد انعكاساً لواقع موضوعي وضرورة اجتماعية- فيجب أن يكون النظام الاقتصادي المقبل أيضاً نظاماً ديمقراطياً، فكما هو متعارف عليه بين صفوف الاقتصاديين، توجد علاقة طردية واضحة بين نجاح التنمية الاقتصادية المستدامة وحتى النمو الاقتصادي، وبين المتطلبات السياسية الديمقراطية في المجتمع.

والديمقراطية في المجال الاقتصادي لا معنى لها إلا بتحقيق الشعب سيادته على ثروات البلاد وخيراتها من أجل بناء اقتصاد وطني يُلبي حاجاته المادية والمعنوية ويضمن للبلاد استقلالها، ويحررها من الهيمنة الإمبريالية في شكلها الاستعماري الجديد، ويفتح أمامها طريق النهضة الشاملة في المجالات العلمية والتقنية والثقافية، ويعيد توزيع الثروة بين المشاركين في الإنتاج الوطني على أسس العدالة الاجتماعية.

فبعد عقد من الزمن أدت السياسات النيوليبرالية التي انتهجها الفريق الاقتصادي السابق إلى تراجع دور الدولة الاجتماعي، وأدى اعتماد سياسات السوق الحر إلى زيادة معدلات الفقر، وارتفاع معدلات البطالة، والابتعاد عن الاستثمار في القطاعات الإنتاجية التي تحتاج إلى وقت أطول لدوران رأسمال، وإلى رأسمال ثابت أكبر، الأمر الذي انعكس انعكاساً سلبياً مباشراً على معدلات الأجور، وتراجعت معدلات التنمية والإنتاجية في الوقت ذاته. إن هذه السياسة الجديدة دعمت فقط قطاعَيْ المال والتجارة والانفتاح على الخارج، وأهملت الصناعة والزراعة والخدمات الشعبية، ما أدى إلى تعزيز التفاوت الطبقي، ونمو رأسمالية طفيلية جشعة، تدعمها بيروقراطية حكومية تشاركها في استغلال الطبقات والفئات الشعبية الكادحة ونهب خيرات البلاد وثرواتها بالتعاون مع الرأسمال الأجنبي، والأهمّ من كلّ ذلك هو التّفاوت في نسب النموّ بين منطقة وأخرى. ولعلّ أبرز الأمثلة على هذه النّتائج فقدان الصّناعة السوريّة لمكانها التنافسي في الأسواق المحلّية، نتيجة تحرير التّجارة، إذ فتحت الأسواق السورية أمام البضائع الأجنبيّة، وخاصّة التركيّة منها، وانحسرت صناعة الأثاث والمنسوجات بشكل خاصّ، ممّا أدّى إلى إغلاق الكثير من المصانع والورش ذات الحجم المتوسّط، وساهم في زيادة نسب البطالة، لصالح فئة التجّار.

إن هذه السياسات المنفلشة أنتجت ما يسمى (احتكار القلّة)، وفي الوقت ذاته، ارتكز الاقتصاد السوري على الاستيراد والاستهلاك بدلاً من النّمط الإنتاجي القائم على التّصدير.

فقد أخرجت هذه الفئات المستفيدة من عمليات النهب من دورة الاقتصاد الوطني فاقداً كبيراً، لو وظف فيه لأمّن مستويات نمو معقولة. هذه الفئات تدخل في صدام من حيث مصالحها مع مصلحة تطور المجتمع، وهي في إصرارها على الإبقاء على الأوضاع كما هي عليه، مستفيدة من نفوذها في جهاز الدولة، إنما تخلق الأرضية والمبررات لهجوم النموذج النيولبيرالي وانتصاره الممكن بشعاراته الديماغوجية، بغض النظر عن أن نتائجه وأداءه سيكونان أسوأ بكثير.

وفي غمرة الأحداث المتصاعدة في سورية مازال يغيب عن خطاب المعارضة خطة عمل لسياساتها الاقتصادية – الاجتماعية، فالشعب السوري بعد عام ونيف من الأزمة ضاق ذرعاً بالوضع المتردي في ظل ارتفاع معدلات البطالة وازدياد رقعة الفقر إلى حدود غير مسبوقة، ونزوح الكثيرين من منازلهم، فصار لزاماً أن يكون هدف الاقتصاد في المرحلة القادمة هو خلق الثروة عن طريق العمل لإشباع الحاجيات الأساسية للمواطنين، ثم استثمار الفائض في مشاريع منتجة. فإن النظام الديمقراطي يحمي العامل وصاحب الرأسمال، ويسمح للنقابات بالنشاط الحر، ويوفر أيضاً البيئة المثالية للعمل والاجتهاد والمثابرة والمبادرة؟للمواطن لوجود ضمانات قضائية وقانونية تحميه من التجاوزات والعراقيل، وهذا من شأنه الرفع من إنتاجيته مما يساهم بدفع عجلة الاقتصاد.

فالمواطن السوري ينتظر قرارات وحلولاً تسعى جاهدة للقضاء على الفساد، وتعمل على الإصلاح المؤسّساتي لضمان استمرار النموّ الاقتصادي. ومن ثمّ الانتقال من النموّ إلى التّنمية من خلال تطبيق الآليّات الديمقراطيّة، وتأكيد دور المجتمع المدني ودور الدّولة في الحياة الاقتصاديّة، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة.

النظام الديمقراطي ضرورة اقتصادية ومطلب اجتماعي أيضاً. فهل فكر معارضونا في مستقبل سورية الاقتصادي..؟

العدد 1105 - 01/5/2024