التجمّد

من لا مازوت عنده ولا غاز ولا كهرباء، في مثل هذه الأيام الثلجية التي تتجمد فيها كل الأشياء المحيطة بالبشر. ما العمل؟ كيف يرمّم المواطن أوجاعه؟ وبأي خيوط يرفو حاجاته ليدفئ جسمه؟

لقد ضحك بردى مبكّراً هذا الشتاء، رغم أعداء الوطن والمواطن والطبيعة. وكان نبع الفيجة يفيض بالفرح.. وسبقت الثلوج (جنيف2).

لبست الأرض ثوبها الأبيض، واختبأت الطيور في أعشاشها، وأجّلت المدارس امتحاناتها. واكتفت العاصمة بنور الثلج. وغاب التيار الكهربائي ساعات وساعات، وظلت مئات الأسر بلا وقود وظل أفرادها يختبئون تحت البطانيات، وينامون مع الدجاج وينتظرون قدوم الصباح، كي يحتسوا القهوة رغم سوادها فهي صديقة عزيزة وزائرة مداومة في كل صباح.

كثيرون أثناء لقاءاتهم أمام أفران الخبز أو وهم يصطفون أمام محل بائعي أسطوانات الغاز، أو عندما يلتقون في ساحات محطات الوقود، يتحدَّثون عن أسرار النوم باكراً ، وعن ازدحام الأحلام أمام أبواب ذاكراتهم المعطّلة. ورأى بعضهم أن للنوم المبكر فوائد لا تُعد ولا تُحصى. وقال آخرون لقد طبقنا المثل(نم بكير وشوف الصحة كيف بتصير). وأكد بعض المتفذلكين أن للنوم فلسفته الخاصة به، فهو صندوق توفير في ظل الأزمات.. وقال: نوفر العشاء والمازوت، ونخفف فاتورة الكهرباء، ومتطلبات الأولاد، ونجمّد الأحلام والآمال، علماً أنه لم يبق من هذه الصور الجميلة أية بقعة ضوء تنير ابتسامات الأطفال.

إن سياسة التجميد كما قال متنفذون في الدولة، هي سياسة مؤقتة ستنتهي بانتهاء الأزمة.. عندئذ ستنطلق أحلام المواطن وتغرّد عصافير الفرح، وتدقّ الطبول وتتعالى زغاريد الأمهات، وتحلّق الأسعار أكثر فأكثر. وطمأن هؤلاء المواطنين وأطلقوا حمامات السلام استعداداً لاجتياز الدولار عتبة المئة ليرة.. وفي المقابل تجمّدت الابتسامات، وازرقت الشفاه وأصبحت الأجور لا تغطي مصروفات أسبوع واحد. وتشكلت (طبقة) من تجار الأزمات وصيادي الظروف السيئة التي طرأت على البلاد والعباد، وأصبح المواطن هو الضحية الأولى، يتلاشى صدى صوته، ولا من يردّ على صيحاته، فتجمّدت نبضاته واخترق البرد القارس عظامه. وبسبب ذلك تعرَّض بعض مرضى السُّكري إلى بتر أصابعهم أو جزءاً من أقدامهم.

إن التجمّد لا يطول فقط النواحي المادية ومتطلبات الإنسان وحاجاته الضرورية، بل هناك من تجمدت أفكاره وأبصاره، ولم يعد يقرأ إلاَّ إرشادات المفتين وتنفيذ نصائحهم. وتشكلت طبقة كتيمة فوق سطح ذاكرات هؤلاء بلا مسامات، ما أدى إلى تجميد الكلمات على ألسنتهم، وتوقف نطقهم فاستخدموا لغة الإشارات والإيماءات.. وماذا يقول مثلاً قارئ خبر في إحدى الصحف السعودية عن زيارة 200 متطوع من المشايخ، إلى مكتب وزير العمل السعودي لثنيه عن قرار وزاري كان قد اتخذه سابقاً، بتأنيث المحال النسائية والسماح للمرأة السعودية بالعمل في المحلات الخاصة ببيع المستلزمات النسائية؟!

ماذا يقول المواطن المصري عن أول قضية ضد محال بيع الخمور والملاهي الليلية. وهي الدعوى القضائية الأولى من نوعها منذ إعلان الدستور الجديد للبلاد!

ماذا يقول شباب الأمة المتحضرة المزدهرة عن قرارات وتوجهات تصدر من مشافي المجانين في زمن ثورة الاتصالات، موجهة إلى الوزارات المختصة بفصل طالبات الجامعات عن الطلاب؟

إن ما يقوم به الإسلاميون الجهاديون التكفيريون، من عودة إلى الوراء مئات السنين، وإخراج أفكارهم من القبور وإحياء رمادها، لن تجد له تربة أو بيئة حاضنة عندنا. وشعبنا وشبابنا وحضارتنا وتاريخنا وثقافتنا، ترفض جميعها بقوة مثل هذه القراءات الرخيصة، فحروفها مغموسة بحبر الجهل، ودعواها تتساقط كأوراق الخريف. 

العدد 1105 - 01/5/2024