الحرية… ضرورة يدركها الوعي!

كلمة طالما تغنت بها ملايين الحناجر على مدى العصور، وذهب ضحيتها الملايين، مطالبة بالتخلص من الظلم والتعسف والاضطهاد، داعية لبناء عالم تسود فيه العدالة والمساواة والإخاء والتسامح..وكم من أنظمة وديكتاتوريات ونماذج للحكم سقطت، وجاء غيرها، لتعود إشكالية الحرية تطرح نفسها بقوة ومن جديد وبأشكال متنوعة، ولتعود الجماهير تدفع أيضاً من جديد أثماناً باهظة لحريتها ولكرامتها ومن حياتها وحياة أبنائها وأحفادها.

إنها إشكالية قديمة، متجددة..(إشكالية الحرية)، سواء من حيث المفهوم العام لها أم من حيث مضمونها الاجتماعي والإنساني والأخلاقي، وارتباط هذا المفهوم بالواقع المادي لمجمل حياة البشر، على مر العصور.

والمقصود بالواقع المادي، ليس فقط ما يتعلق بالبنية التحتية الاقتصادية لمختلف أنواع الحكم التي مرت على البشرية، والتي لم تمر بعد، بل ومجمل ما يتعلق بهذه الأنظمة من علاقات اجتماعية وعلاقات البناء الفوقي السياسية والثقافية والدينية وما إلى ذلك.. فقد كانت مسألة الحرية دوماً، حتى في تلك الأنظمة التي تبنت الفكر الاشتراكي(ونقصد الاتحاد السوفييتي والدول الشرقية) سابقاً.. كانت دوماً مسألة في غاية الالتباس والتشويش والضبابية. بل ويمكن القول إنها لم تخرج من تحت عباءة ما يمكن تسميته (سيطرة نظام الحزب الواحد) أو (ديكتاتورية الحزب الواحد) مقابل التهميش الممنهج والإقصاء المبرمج لكل الشرائح التي لا تنسجم مع فكر هذا الحزب.

إذاً فهي إشكالية قديمة، متجددة.. وما شهدته وتشهده ساحات الوطن العربي من مظاهرات واعتصامات تنادي بالحرية والديمقراطية على كامل امتداد أرضه، وعلى مدى أكثر من عامين، على الرغم من التباين بين بلد وآخر، لا ينفصل بالعموم عن الحاجة الضرورية والملحة، التي بات المواطن العربي يعي (عفوياً أو لا عفوياً) ضرورتها وقيمتها.. إنها الحرية.

لقد حاول العلماء والفلاسفة، كلٌّ من موقعه الطبقي حل هذه الإشكالية، وعملوا على تفكيك جزئيات هذه المسألة، من منطلق كونها ترتبط ارتباطاً مباشراً بشخصية الفرد، وبكينونته واستقلاليته وبرغباته من جهة، وبمدى تفاعل هذا الفرد مع المجتمع من جهة أخرى.

هل هي مجرد رغبة ؟ كما جاء في (القاموس الفلسفي الألماني بتعريفه الحرية: (على أنها إمكان التصرف حسب الرغبة).. أم أن للمسألة أبعاداً تتجاوز مجرد الرغبة والانقياد وراء الأهواء والنزوات والرغبات؟

يجيبنا على ذلك فيلسوف هولندا الكبير (بينيديكت سبينوزا) (1632- 1677) قائلاً: (إنني أسمِّي العجز الإنساني عن ترويض الأهواء والحد منها، عبودية. لأن الإنسان الخاضع للأهواء لا يمتلك نفسه، بل هو موجود في قبضة القدر.

وهنا تحديداً يكمن التناقض.. وهو في جوهره إنساني، فمن جهة اتباع الرغبات هو حرية، بينما تحريمها_ هو العبودية، أما اتباع الرغبات الجامحة_ فهو عبودية، في حين أن تحديدها المعقول هو الحرية.

ولحل هذا التناقض وإيجاد الحد الذي تنتظم فيه هذه البواعث الإنسانية الخاصة، ومن أجل تهذيبها وقوننتها ومن أجل إخضاعها للإرادة، يتوجه  سبينوزا إلى مفهوم (الضرورة).

إنها مسألة أخلاقية بالدرجة الأولى مرتبطة بمدى معرفة قوانين الطبيعة، لأن هذه المعرفة هي الوحيدة الكفيلة بتقديم الضمانات للحرية الشخصية. والقيود الوحيدة التي تجعل الإنسان غير حر، هي الشكل اللاعقلاني من التفكير والجهل، والخلق السيئ، فالإنسان في رأيه (يتبع نظام الطبيعة العام، يخضع له ويتكيف معه بمقدار ما تتطلب ذلك طبيعة الأشياء). فالناس في عملية إدراكهم للعالم الخارجي، بواسطة العقل، يتصرفون بما يتوافق مع المعارف التي حصلوا عليها، ومع الضرورة.

لأن (العقل لا يتطلب شيئاً معارضاً للطبيعة…). (فالرغبة التي تنجم عن العقل لا يمكن أن تكون خرقاء). يقول سبينوزا:

(لقد سميت ذلك الإنسان الذي يسترشد بالعقل، وحده، إنساناً حراً).

(والحرية ليست تعسفاً فردياً، بل ضرورة يدركها الوعي).

لا شك أن ما توصل إليه سبينوزا من ضرورة معرفة قوانين الطبيعة وربطها بالوعي والعقل، لكي تكتمل الصورة الحقيقية للحرية، هو إنجاز إنساني، تاريخي مهم جداً، لكنه من وجهة النظر الماركسية يبقى منقوصاً، وغير منسجم تماماً، ما لم يقترن ويتكامل بالمعرفة الأرقى، ألا وهي معرفة الضرورة التاريخية.

إذ إن تخليص الإنسان من العيوب، ومن الجهل، وإتباع شكل التفكير العقلاني، والعلمي ، لن يكون كافياً من أجل تنمية حرية شخصية، ما لم يؤخذ بالحسبان حالة الحرية الاجتماعية (الفرد كمكون أساسي من مكونات المجتمع).

ثم جاءت محاولات الفيلسوف الألماني هيجل (1770-1831) لتستكمل تعاليم سبينوزا عن الحرية كضرورة يدركها الوعي، واضعاً إياها في سياق تطورها التاريخي الواقعي، أي حالتها في هذه الفترة التاريخية أو تلك، إذ يقول:

(إن التاريخ العالمي الشامل هو تقدم في وعي الحرية، تقدم يجب أن نعرفه بضرورته).

وهذه بلا شك صيغة متقدمة جداً، غير أنها بقيت في إطار المعالجة المنقوصة وغير المكتملة، نتيجة إغفالها موضوع الممارسة الاجتماعية التاريخية، التي هي المصدر الحقيقي، والأساس في كل معرفة، والتي من دونها تبقى قضية الحرية في إطار مفهومها النظري، البعيد عن المفهوم الواقعي لقضية الحرية.

إن قضية الحرية بمجملها، هي قضية جوهرية تمس الفرد والمجتمع في تكامل تطوري تصاعدي، لا يمكن أن يكون بمعزل عن دور الممارسة الاجتماعية التفاعلية المعرفية..معرفة الظروف والأوضاع والأحوال والقوانين التي يمكن أن تستخدم ويمكن الاعتماد عليها.

الفعل الحر هو الفعل المتلائم مع الرغبات الخاصة الذي تصححه باستمرار، معرفة الشيء الموجه نحوه، والظروف التي يجري فيها، وطبيعة الحاجات التي خلقت هذه الرغبات.وبالتالي فإن عواقب مثل هذا العمل لا يمكن أن تكون غير متوقعة.

هنا سوف يبرز أمامنا السؤال الهام المتعلق بالعلاقة الجدلية بين الحرية والمسؤولية من جهة، ومدى ارتباط هذين المفهومين أحدهما بالآخر من جهة أخرى ؟

فما دامت الحرية ككل، حسب تعبير إنجلز، تنحصر في معرفة قوانين الطبيعة، وفي الإمكانية المبنية على  هذه المعرفة لإجبار هذه القوانين (على العمل) بصورة منتظمة (من أجل أهداف محددة).علماً أن هذا الأمر كما ينطبق على قوانين الطبيعة الخارجية، في الوقت نفسه  ينطبق على القوانين التي تحكم الوجود الجسدي والروحي للإنسان، أي أنها قوانين من فئتين).. فإن حرية الإرادة، لا تعني بالتالي سوى القدرة على اتخاذ قرار يستند إلى معرفة القضية، أي أنه كلما كانت محاكمة الإنسان أكثر حرية بالنسبة إلى مسألة ما معينة، كان تحديد محتوى هذه المحاكمة أكثر ضرورة.

وهي هنا إشارة واضحة إلى محتوى المسؤولية (كوجه آخر)، حسب إنجلز، من نوع معين للحرية.فحرية الحكم على موضوع ما، وفي الوقت نفسه، حرية التصرف تجاهه، تتوقف على درجة تملك ومعرفة الضرورة، أي القوانين الداخلية لتطور هذا الموضوع، سواء في النظرية أو الممارسة (المعرفة النظرية والتجريبية). إن هذا المقياس، مقياس التملك لمعرفة الضرورة، بما فيها العملي، لا يحدد درجة الحرية التي تم بلوغها فحسب، وإنما يعطي أيضاً المحتوى الموضوعي للمسؤولية (الوحدة بين الذاتي والموضوعي).

فإذا كانت الحرية هي الإمكانية أو القدرة (على اتخاذ قرار بالاستناد إلى معرفة القضية)، أو التصرف على أساس إدراك القضية، فإن المسؤولية هي ضرورة (تمليها الظروف الموضوعية)، أو هي واجب اتخاذ القرارات المناسبة، المتوافقة مع المصالح العامة للجماعة أو الطبقات..(هي قدرة الإنسان على التنبؤ بنتائج نشاطه وتحديده انطلاقاً من الفائدة أو الضرر الذي ينجم عنه).

(كل خطوة إلى أمام على طريق الحضارة هي خطوة على طريق الحرية)، هذا ما يؤكده إنجلز، لأن الحرية في المحصلة هي نتيجة التقدم الاجتماعي كله، وفي الوقت نفسه هي مؤشر لتطور الشخصية.

 

 

بعض المراجع:

 

1 ماركس وإنجلز المؤلفات الكاملة

2 القاموس الفلسفي موسكو 1961

3 الحرية والمسؤولية (كوسولابوف وماركوف)، 1975.

العدد 1104 - 24/4/2024