سورية مقبلة على موجة غلاء جديدة في أسعار الغذاء

مؤشران اثنان، لافتان للانتباه، في موضوعة الأسعار المحلية، يمكن الاستناد إليهما، في التخفيف من حدة الصدمة القادمة المتوقعة الحدوث في مجال رفع الأسعار، فإلى جانب إدراك المستهلك السوري وشعوره الكبير بالأسعار المرتفعة، أكد تقرير صادر عن الهيئة العامة للمنافسة ومنع الاحتكار أن الأسعار المحلية واكبت الأسعار العالمية في الارتفاع وبنسب أكبر، خاصة في شهر آذار الماضي. وذلك لمجموعة أسباب تتعلق بالوضع الحالي لسورية وارتفاع تكاليف الإنتاج والاستيراد والنقل والشحن وصعوبات تأمين القطع الأجنبي وفتح الاعتمادات وعدم استقرار سعر الصرف وغيرها من الأسباب. وتوقعت الهيئة أيضاً استمرار ارتفاع أسعار الغذاء محلياً.  وهذا يعني أن سورية مقبلة على موجة غلاء جديدة، غير محددة النسب، ولكنها لن تكون أرحم من سابقاتها على المستهلكين، الذين أعيتهم الظروف المعيشية، وأثقلت كاهلهم، ودفعت بهم إلى انتظار المجهول على مختلف المستويات.

المؤشر الثاني، يرتبط بتقرير لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، يؤكد ارتفاع أسعار الغذاء في الشهر الجاري، إذ اقتربت أسعار الغذاء العالمية من المستويات التي بلغتها خلال أزمة عام 2008  بحسب فاو  وهذا خطر آخر لايمكن الاستهانة به. فالظروف التي ستدفع بارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، ستنعكس سلبياً على الأسعار المحلية، ومن الطبيعي جداً، استناداً إلى تجارب سابقة أن يستغل ذلك عدد من التجار، لاسيما تجار الأزمات، إضافة إلى تذرعهم بما يجري في سورية، لرفع الأسعار، والتحكم بلقمة عيش العباد، وممارسة الضغوط المباشرة وغير المباشرة على الحكومة والجهات ذات الصلة بتحديد الأسعار، لوضع أسعار تلبي شرههم المتزايد للثروة، ولاستغلال الأزمة بالشكل الذي يؤمن لهم مصادر ربح إضافية على حساب الفقراء والمعوزين وذوي الدخل المحدود والطبقات التي لا تملك سوى قوة عملها.

من السهل جداً على الحكومة أو أية جهة أخرى إيجاد المبررات لارتفاع أسعار المواد والسلع في سورية، من خلال ربطها بالأزمة المستمرة منذ آذار العام الماضي. فأزمة عمرها 19 شهراً، وهي قابلة للاستمرارية بلاشك، يمكن أن تكون السبب الذي يتلطَّى خلفه كثيرون إزاء الارتفاع المذهل للأسعار. وعلى سبيل المقارنة نجد أنه خلال الحرب الأهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، كانت سورية تستورد الكثير من السلع الغذائية الرئيسية من لبنان، كالزيوت والسكر…إلخ، وكانت أسعارنا أعلى بكثير، والذريعة قائمة أيضاً بأن الاستيراد مكلف وله ترتيبات محددة، لاسيما أن قائمة المواد المحظور استيرادها أكبر بكثير من نظيرتها المسموح بها.  وفي حقيقة الأمر كانت المسألة تتعلق بالتهريب وأتاوات تدفع. ومن القضايا المثيرة للسخرية آنذاك أن سعر كيلو الموز في الأسواق وصل إلى مئة ليرة، بينما وزارة التموين حددته بأقل من خمس ليرات. بالمحصلة ارتفاع أسعار المواد والمنتجات في سورية غير محكوم بنواظم اقتصادية، ولم تتمكن آلية السوق بالعرض والطلب حتى في أوقات الراحة والانفتاح الاقتصادي من ضبط الأسعار ضبطاً مناسباً، وبالتالي قضية الأسعار لا يمكن الاستهانة بها، أو التقليل من الدور المتعاظم للجهات المتداخلة والشبكات التي لها مصالح احتكارية في تحديد أسعار محلية تناسب الدخول المتآكلة للمواطنين.

في أزمة 2008 الغذائية على الصعيد المحلي، ثمة ما يندى له الجبين، وهناك الكثير من الذكريات المريرة عن حالات تسجل لأول مرة في سورية، كان أبرزها حالات النزوح الهائلة من المنطقة الشرقية إلى أطراف دمشق وريفها، وتفريغ ممنهج للقرى في الريف السوري. وهناك قرى بأكملها هجرها قاطنوها، بحثاً عن رغيف الخبز، ما خلق مشكلة تنموية واقتصادية، وفيما بعد مشكلة اجتماعية هائلة. وحتى لا يتكرر مثل هذا السيناريو الآن، رغم وجود مهجرين لأسباب تتعلق بأعمال العنف والقتل القائمة، لابد من التساؤل حول الإجراءات التي يفترض أن تتخذها الحكومة لمواجهة هذا الخطر المتمثل بغلاء أسعار المواد الغذائية، إذ إن مجمل الظروف تحتم أن تتأثر البلاد بحمى الغلاء العالمية. ورغم تأكيدات المسؤولين الاقتصاديين المتعلقة بتوفُّر المواد الغذائية الرئيسية، لاسيما القمح، وتوفُّر القطع الأجنبي اللازم للاستيراد، فضلاً عما يمكن أن ينتجه الاقتصاد الوطني خلال هذه الفترة، فإن تهيئة الظروف الكفيلة لحدوث أزمة أسعار أمر قائم، ووجود من يسعى ليستغلها أيضاً أمر قائم. ولا نتحدث هنا عن ضعف في الرقابة على الأسعار، وزج مديريات وجمعيات حماية المستهلك بهذا الأمر، إنما نتحدث عن سياسات حكومية استباقية، كفيلة بالتخفيف من الآثار السلبية المتوقعة لارتفاع أسعار المواد الغذائية، والإجراءات التدخلية في الحياة الاقتصادية لضبط إيقاع السوق وأسعاره. إذ لابد من معادلة توازن بين ارتفاع الأسعار ومستويات الدخول، للمحافظة على ما بقي لدى المواطن من أمل، ويكفيه محاولات جره والانزلاق به إلى أتون الطائفية القاتلة.

العدد 1105 - 01/5/2024