النظام الأبوي البطريركي وتشكيل الشخصية العربية (2من2)

من المعروف في المجتمعات الأبوية -البطريركية، كما في المجتمعات العربية عموماً، أن العائلة أبوية- ذكورية، تعمل على بناء شخصية خاضعة تميل إلى الخضوع للكبار والإذعان للعائلة وكذلك للسلطة، عبر تربية أبوية صارمة تعلم الأفراد الخضوع والطاعة العمياء. فالأب يمثل القوة والسلطة، والأم والأولاد الطاعة والخضوع. وحينما ينشأ الأولاد، يقوم الولد بتقليد الأب ومحاكاته وأخذ دوره في التسلط على أخته أولاً، ثم على عائلته بعد الزواج ثانياً. وتقوم البنت بتقليد الأم وأخذ دورها الخاضع والانصياع إلى أوامر الذكر ونواهيه. وينتقل التسلط من العائلة إلى العشيرة، ومنها إلى المدرسة والشارع والدوائر والمصانع، والى جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.

إن الخضوع وعدم مخالفة الأوامر تجعل الفرد ينفذ تلك الأوامر دون أي رفض أو احتجاج.وبذلك يكون الطفل المطيع (ولداً طيباً يسمع الكلام دائماً). ولكن عندما يكبر الولد المطيع ويتكيف مع ضرورات المواقف تحدث عنده ردود أفعال مناقضة، ويبدأ بتطوير عدوانية مكثفة ضد أبيه وضد معلمه، وكذلك ضد الموظف والشرطي وغيرهم. كما يضطر، بسبب الخوف والاحترام الزائد للقيم وغيرها، إلى كبت هذه العدوانية، التي من الخطر عليه إظهارها. غير أنها تتحول بالتدريج إلى عامل ديناميكي في بناء شخصيته وتكوِّن لديه قلقاً واضطراباً، وتدفعه إلى أن يخضع إلى أكثر من جهة، وفي الوقت ذاته، تخلق له تحديات وردود أفعال موجهة إلى الآخرين وإلى الحياة نفسها بصورة عامة. كما أن ردود الأفعال هذه تؤثر سلباً على شخصيته، وتُطوِّر بمرور الزمن سمات جديدة وتصبح جزءاً من شخصيته.

ومن المعروف أن السلطة الاستبدادية غالباً ما تبحث عن الإنسان الضعيف الخاضع، وتحاول تطويع عقله ضماناً لتطويع جسده. وتستخدم لذلك آليات مختلفة، من بينها قتل البعد العقلاني النقدي وتحريفه وتطوير مسلمات تبريرية، كنظرية المؤامرة والأعداء الجدد وغيرها لخلق مسوغات تساعد على فرض قيود ومحرمات وعوائق تقيد الفكر، وتصب عادات وأنظمة جديدة في قوالب جاهزة في البنية الذهنية تقف سداً منيعاً أمام أي مقاومة تبديها الفئات الاجتماعية المقهورة. التي تفضي بمرور الوقت إلى تطويع الجسد وإخضاع العقل وإضعاف الإحساس بالمسؤولية، التي تسهل عملية الخضوع. ولما كانت المسؤولية هي الوجه الآخر للحرية، فإنها ستتحول إلى شبح مخيف يهرب منه الإنسان الضعيف.

 ونجد أمثال هؤلاء الضعفاء الخاضعين في المجتمعات ذات الأنظمة الاستبدادية الشمولية، الذين يعيشون سنوات طويلة تحت وطأة الاستبداد والقمع والقهر ولا يذوقون طعم الحرية، يصبحون مسلوبي الحرية والإرادة والحس بالمسؤولية، ويخضعون لقناعات تسوغ لهم الخضوع والتكيف معه وتجعلهم مقهورين ومضطهدين وغير قادرين على الرفض والتحدي والمقاومة وتغيير الواقع البائس الذي يرزحون تحته.

 ولكن الأدوار قد تتبدل حالما تسنح الفرصة المناسبة. فالشخصية الخاضعة المستسلمة للأمر الواقع، والقابلة بالخضوع للقهر والظلم والإذلال، قد تتحول فجأة إلى شخصية أخرى مناقضة لشخصيتها الطبيعية المسالمة، خصوصاً عندما يكون لديها استعداد سايكولوجي لأن تتحول أيضاً إلى شخصية عدوانية قامعة، تماماً كما حدث لكثير من الأشخاص في العراق وغيره، عندما تحولوا إلى الانخراط في أجهزة الأمن والاستخبارات أو في الميليشيات والعصابات المنظمة وغير المنظمة، وأخذوا يمارسون العنف بشكل أو آخر. أو حين يتحول أشخاص مقهورون وخاضعون، إلى أشخاص ساديين متسلطين على الآخرين، وخاصة على الضعفاء والمهمشين الذين هم مضطرون إلى طلب المساعدة أو العون المادي أو المعنوي، أو حين يستدرج المرء لطلب ثأر قديم أو رد ظلم منسي أو تعويضاً عن معاناة طفولة بائسة، أو رداً على عقاب فردي أو جماعي كان قد تلقاه هو في المدرسة أو الشارع من زمن الطفولة هو أو أمه أو أحد أفراد عائلته وغير ذلك.

إن الإنسان الضعيف والعاجز أمام القوة الأبوية المتسلطة التي يفرضها الحاكم أو الشرطي أو الشيخ أو المعلم أو الموظف الذي يمتلك صنع القرار، إذا لم يستطع التملص من التسلط، فليس أمامه سوى الرضوخ وبذلك يفقد السيطرة على مصيره ومستقبله. وبدلاً من المقاومة والرفض يقوم بسلوكات تعويضية، كالتزلف والاستسلام والمبالغة في احترام المتسلط وتبجيله، اتقاء لشره من جهة، والطمع في رضاه من جهة ثانية، والأمل في العيش بسلام لأنه لا يستطيع الرفض والتمرد والمجابهة من جهة ثالثة. وفي هذه الحالة تنعدم علاقة التكافؤ لتحل محلها علاقة التشيؤ، وذلك لعدم وجود اعتراف بالأنا كقيمة إنسانية. وهكذا تتطور علاقة جديدة ومن نوع آخر إذ يصبح (الآخر هو الجحيم). وكلما تضخمت ذات المتسلط فقدت ذات العاجز أهميتها واعتبارها وفاعليتها، حتى لتكاد تفقد إنسانيتها مثلما تفقد الإحساس بمعاناة الآخرين والتعاطف معهم، وكذلك تزداد المخاوف من الآخر والحاجة إلى الأمن والطمأنينة، ويصبح الإنسان نهباً للقلق واللامبالاة، بحيث ينطبق عليه قول المتنبي:

من يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليهِ

 ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ

إن هذه العلاقة ليست جامدة دوماً، فقد تغلب عليها حالة التذبذب حين يحاول الإنسان العاجز الانتقام لدونيته بأساليب خفية وملتوية، كاللامبالاة والتخريب، أو استخدام أساليب رمزية أخرى كالتنكيت والتبخيس والتشنيع والدعاية المضادة وكذلك الغش والتملق والمراوغة والتضليل. وهي سلوكات مزدوجة في العلاقة مع الآخر تعكس رضوخاً ظاهرياً من جهة، وعدوانية خفية من جهة أخرى. وهي محاولة تضليل ونوع من الشطارة في رد المتسلط من قبل العاجز الذي يتربص به الدوائر لينال منه ما يستطيع ويثأر لذاته الجريحة. ولكن عندما لا يستطيع المضطهَد والعاجز رد الاضطهاد والنيل من المتسلط، فإنه يوجه عنفه وغضبه وثأره نحو الآخر وبالأسلوب الذي تسمح به الظروف، وهو حل وسط بين التمرد والخضوع. فهو يفتش أحياناً عن آخر يحمِّله وزر قهره واضطهاده وعجزه وأخطائه، وكذلك عدوانيته. وهو لا يكتفي بإدانة ذاته، وإنما يدين الآخرين ويشركهم معه ويوجه اللوم إليهم، بل ويحملهم المسؤولية. وبالتالي يصب غضبه وعدوانيته عليهم، محاولاً بذلك إسقاط الإحساس بالذنب وإلقائه على الآخرين، لا على المتسلط الحقيقي، وإنما على المقهور والمستضعف والأكثر عجزاً. وهنا نلاحظ أيضاً أن الإنسان الخاضع قد يستخدم أساليب المتسلط نفسه ولغته، مع الاختلاف في دوافع كل منهما.

غير أن هذا التماهي بالمتسلط هو قلب للأدوار وتبرير لها والتصرف بعقلية المتسلط وأساليبه، التي يحاربها. فهو يتعالى ويستبد ويظلم ويمارس أعمال القمع والقهر التي كان يرفضها. وبذلك يصبح القاتل والضحية واحداً. كما أن التماهي بعدوانية المتسلط تجر الأفراد إلى ممارسة التسلط على من هم دونهم أو اضعف منهم، عن طريق تلمس الحظوة والتقرب من المتسلطين وتقديم الخدمات لهم، وذلك باستعراض القوة أو حمل السلاح أو المباهاة بها والتعالي على المقهورين واستغلال الفرص السانحة، كاستعمال النفوذ وفرض (الخوَّة) والتهديد والخطف والابتزاز وأخذ الرشوة. وهذا يعني تبني قوة المتسلط واستغلالها لحسابه وفرضها على الأضعف، وتمثل قيمه وأسلوب حياته ونظرته إلى الأمور، وتقليد شعاراته وأزيائه وحركاته وكلماته، كما عمل بعض العراقيين في تقليدهم لصدام حسين، أو الليبيين لمعمر القذافي، في أوج قوتهما وتسلطهما. وهكذا تتحول تطلعات المتسلطين الصغار إلى مزيد من الخضوع والرضوخ لشروط المتسلط الذي يرمي لهم بالفتات، مما يحولهم إلى أدوات مطيعة لتنفيذ غاياته وتحقيق أهدافه.

وغالباً ما تبدو الميول السادية مقنّعة بالحب، إذ يزعم البعض أن التحكم بالشخص الآخر هو تعبير عن الحب. غير أن العامل الجوهري في ذلك هو الاستمتاع بالهيمنة والتسلط والتلذذ بها. ولكن في حالات قليلة أخرى ينقلب المقهور الخاضع إلى شخص متمرد، فيثور ويتخطى قهره وعجزه، فيكسر حاجز الخوف ويحطم سادية المتسلط وجبروته. وإذا لم يستطع تحقيق ذلك، يتجه إلى الانسحاب والتقوقع على الذات بدل المجابهة، بسبب الشعور الداخلي بالعجز وقلة الحيلة، لأن طموحاته محدودة وأهدافه قريبة المنال. فهو يحاول إيهام ذاته بتقبل هذا المصير المفروض عليه، الذي يبرره بالقضاء والقدر و(المكتوب على الجبين لازم تراه العين ).

إن هذا التبرير يحدد أيضاً طموحاته ويقلل الفرص أمامه فيضطر إلى ترك ذلك إلى الظروف تسيّر حياته وترسم مستقبله، تحاشياً لكل ما يعرضه للخطر، وتجنب أي علاقة مباشرة بالمتسلط، ويتهرب من كل مسؤولية، ويقف كالمتفرج ويقول: (أنا شعليّة).

إن الوقوف على السطح واللامبالاة بما يجري على مسرح الأحداث  هو آخر مراحل الاستسلام والدونية، ويشكل في الحقيقة ستاراً واقياً يخفي المرء فيه ضعفه وبؤسه واستلابه، ويكوِّن عنده (جرحاً نرجسياً) هو أكثر عناصر الوجود الإنساني ضعفاً ومهانة. وهو يحاول تغطية ذلك والتستر عليه بأشكال من الاستعراض الاستهلاكي والادعاء والتبجح وخداع الآخرين بالمال والجاه والقوة والحيلة وغيرها.

وهناك من يبرر التمادي في اضطهاد المواطنين وإخضاعهم ويوجه اللوم إليهم بسبب عجزهم واستكانتهم، معللاً ذلك بأن البلد رضخ منذ مئات السنين إلى أنظمة استبدادية قمعية حولته إلى شعب أعزل لا حول له ولا قوة، وجعلته يستهين بالرضوخ لحاكم يمنحه سلطة الأب البطريركي القائد من جهة. ويقول بأن مثل هذا الشعب لا يستطيع أن يمارس الحرية والديمقراطية، وإذا سمح له بذلك فسوف تعم الفوضى ويتحول المجتمع إلى غابة والناس إلى ذئاب يأكل بعضهم بعضاً من جهة أخرى. وبرغم أن هذه التعميمات غير دقيقة وتبريرية، فقد تكون لها مصداقية في ظروف تحولات بنيوية قاهرة تمر بها بعض المجتمعات. ولكن يجب أن لا تستغل مثل هذه التعميمات في نشر وإشاعة أن الناس هم بحاجة الآن إلى (كاريزما) ومخلّص ينقذهم من هذه الفوضى. وبمعنى آخر، الدعوة إلى سلطة قائد قوي يلوي رقابهم من جديد حتى تستقيم أمورهم. إن هذه الدعوة هي مؤشر على ميل الإنسان الضعيف والمقهور للخضوع إلى دكتاتور يحسم أمرهم، لأنهم غير قادرين على أن يكونوا أحراراً ومتساوين ومسؤولين عن حياتهم وقدرهم.

 

المصادر:

1- إبراهيم الحيدري، النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب، دار الساقي، بيروت 2003

2- هشام شرابي، البنية البطركية، بيروت 1987

3- مصطفى حجازي، سيكولوجية الإنسان المقهور، بيروت 1984.

 

نقلاً عن (مركز الدراسات والأبحاث الماركسية) .

العدد 1105 - 01/5/2024