اليسار الجذري… واليسار الإصلاحي… أو يسار الوسط

أصبح اليسار في فرنسا، بلد منشأ هذا المصطلح إبان الثورة الفرنسية، وفي أوربا عامةً، في أواسط القرن التاسع عشر، يتشكل من تيارات سياسية واقتصادية- اجتماعية متنوعة تأثرت بمناخات الثورة الفرنسية بتنوع مشاربها، وبالثورات اللاحقة التي حدثت في بلدان أوربية أخرى في ذلك القرن. وهو ما اتضح من المدارس المختلفة التي كانت سائدة في إطار الانتفاضات العمالية التي شهدتها عدة مدن فرنسية عام ،1871 وخاصة في العاصمة باريس، إذ استولى العمال هناك على السلطة لعدة أسابيع في ثورة عمالية باتت معروفةً باسم (كومونة باريس).

لكن الغلبة في صفوف اليسار الأوربي أصبحت، في أواخر القرن، وخاصة بعد قمع كومونة باريس، للمدرسة الفكرية التي أسسها في أواسط القرن المفكران اليساريان الألمانيان كارل ماركس وفريدريك إنجلز، وعُرفت، حتى في حياة كارل ماركس، باسم الماركسية.

وقد شهدت تلك الفترة، كما والسنوات الأولى للقرن العشرين، معركة أيديولوجية وسياسية حادة نشأت، في عدة بلدان من القارة الأوربية، وخاصة في ألمانيا، بين اليسار الذي بات يميل إلى اعتماد الطريق البرلماني بالأساس وسيلة لتغيير أو تحسين الوضع الاجتماعي والسياسي للمواطنين، والذي عُرف باسم التيار الإصلاحي. واليسار الأكثر جذرية الساعي إلى تغيير عميق، ثوري، يتجاوز النظام الرأسمالي باتجاه التحوّل نحو نظام اقتصادي- اجتماعي آخر، المعروف باسم النظام الاشتراكي، والمستند إلى مبدأ الملكية العامة لوسائل الإنتاج.

وعشية الحرب العالمية الأولى، التي اندلعت في أواسط العام ،1914 وقعت خلافات حادة في أوساط قوى اليسار الاشتراكي في أوربا وفي ما بينها. ومعظم هذه القوى، كما ذكرنا، كان متبنياً للماركسية. فعشية (الحرب الكبرى)، كما كانت تُسمّى إلى أن اندلعت حرب عالمية أخرى في أواخر الثلاثينيات فأصبحت تُعرف باسم الحرب العالمية الأولى، برز اتجاهان رئيسيان في الأممية العمالية (الأممية الثانية)، التي كانت قد تأسست في العام 1889 وشارك في تأسيسها فريدريك إنجلز (كارل ماركس توفي عام ،1883 بعد أن كان، مع إنجلز، من مؤسسي الأممية الأولى عام ،1864 والتي كانت تعرف عند تأسيسها باسم الرابطة العالمية للشغيلة): اتجاه داعم، خاصةً في برلمانات الدول المتحاربة، لموقف الحكومات اليمينية في كلٍ منها من الحرب. إذ قام نواب هذا الاتجاه بالتصويت لصالح اعتماد موازنات الحرب، واتجاه آخر معارض لكل هذه الحكومات ومناهض للحرب، التي عدّها (حرب ضوارٍ) بين دول كلها إمبريالية، وكلها تحاول عبر الحرب إعادة رسم خريطة أوربا وإعادة اقتسام مستعمرات دولها في أنحاء العالم.

وكان الروسي فلاديمير إيليتش أوليانوف (المشهور باسمه الحركي، لينين) أحد أبرز رموز التيار الأخير. وبات أكثر بروزاً بعد انتصار الثورة التي قادها في روسيا القيصرية في أواخر عام  ،1917 بعد خروج روسيا ما بعد الثورة من الحرب. ومن بين المعارضين الآخرين لهذه الحرب في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوربية، وهو الاسم الذي كانت تحمله معظم الأحزاب الملتزمة بالماركسية آنذاك، زعيمة الجناح اليساري الجذري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (وهي من أصل بولوني) روزا لوكسمبورغ، التي انتهت، مع رفيقها في قيادة هذا الجناح كارل ليبكنخت، بالسقوط ضحية قمع الأوساط المناهضة لهذا اليسار الجذري في ألمانيا في مطلع العام ،1919 إثر محاولات لم تنجح لتنظيم ثورة عمالية في هذا البلد، الذي خرج من الحرب العالمية الأولى مهزوماً ومأزوماً، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

وفي العام ،1919 وبعد حملات وصراعات أيديولوجية حادة قادها لينين، خاصة، ضد هذا اليسار (الشوفيني والمساوم) في أوربا، حصل الطلاق النهائي في إطار ما كان يُعرف قبل الحرب باسم الأممية العمالية، أو الأممية الثانية. فقد أقام القادة الثوريون المنتصرون في روسيا (الاتحاد السوفييتي الذي تأسس في نهاية عام 1922 وأُقر دستوره الفيدرالي في مطلع العام 1924) بتأسيس أممية جديدة للحركة العمالية اليسارية العالمية، مركزها في موسكو، حملت اسم الأممية الشيوعية (كومنترن، وهي صيغة دمج للمقاطع الأولى للكلمتين في اللغة الروسية)، وعُرفت أيضاً باسم الأممية الثالثة، تمييزاً لها عن تلك التي تأسست في العام 1889 وانتهت إلى الانقسام. والذين بقوا في مناخ التيار السابق المهيمن على الأممية الثانية عادوا فتجمعوا لمواجهة تحدي التجربة السوفييتية الجديدة، وأطلقوا على تجمعهم لاحقاً اسم (الأممية الاشتراكية)، أو (الدولية الاشتراكية).

هذه الأحزاب اليسارية الأخيرة التي اتخذت منحى إصلاحياً يعتمد بالأساس على النشاط البرلماني والسياسي، وغالباً ما احتفظت لنفسها بلقب (الاشتراكية الديمقراطية)، الذي كان سائداً، كما ذكرنا، في الأممية الثانية، استمرت في الحضور السياسي في بلدان أوربا وبلدان أخرى في أنحاء العالم إلى يومنا. علماً بأن نفوذها في حقبة ما بين الحربين العالميتين، التي شهدت صعود الفاشية والنازية في أوربا، كان محدوداً نسبياً. ثم اتسعت في نفوذها وتأثيرها بعد الحرب العالمية الثانية. وتجاوزت طابعها الأوربي بالأساس، مع حضور لها في بعض الدول التي استوطنت فيها مجموعات أوربية، مثل أستراليا ونيوزيلاندا وجنوب إفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، ثم في عدد من بلدان العالم التي كانت مستعمرة في آسيا وإفريقيا. إذ انضم بعض الأحزاب في هذه البلدان إلى (الأممية الاشتراكية)، التي أسستها بعض الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوربا الغربية في مدينة فرانكفورت الألمانية عام 1951.

وقد تخلّت غالبية هذه الأحزاب رسمياً، منذ عدة عقود، عن تبنيها للماركسية، التي ورثها معظمها من الأممية الثانية في أواخر القرن التاسع عشر. فالحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني (ويُترجم اسمه أحياناً بصيغة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، مع أن الصيغة التي أوردناها أقرب إلى الترجمة الحرفية للاسم الحالي)، وهو أقدم حزب في ألمانيا إذ تأسس في صيغته الأولى عام ،1863 هذا الحزب تخلى رسمياً عن تبنيه للماركسية في المؤتمر الذي عقده في مدينة باد غودسبرغ عام 1959.

وحتى الحزب الشيوعي الإيطالي العريق، الذي تأسس عام 1921 وريثاً لغالبية الحزب الاشتراكي الإيطالي الأقدم، الذي كان قد تأسس عام ،1892 فقد كان له دور بارز في الحركة الشيوعية العالمية واليسار الدولي طوال عقود طويلة. وقد كان من بين أبرز مؤسسيه القائد والمفكّر اليساري المتميز أنطونيو غرامشي، فقد انتقلت أغلبية منه عام 1991 رسمياً إلى مواقع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بعد قرار حل الحزب الشيوعي وتأسيس الحزب الديمقراطي لليسار، الذي أصبح لاحقاً يعرف باسم (ديمقراطيي اليسار). وبعد ذلك باسم الحزب الديمقراطي. وهذا الحزب شارك في حكومات ائتلاف يسار الوسط التي تشكلت بعد العام 1996. فيما بقيت أقلية من الحزب الشيوعي الإيطالي السابق معارضة لحل الحزب، ومتمسكة بالاستناد الفكري إلى الماركسية. فأقامت، مع قوى وجماعات يسارية جذرية أخرى، الحزب الشيوعي – إعادة التأسيس. ويُكتب اسمه أحياناً بصيغة حزب إعادة التأسيس الشيوعي. وكلا التيارين المنبثقين عن الحزب الشيوعي الإيطالي القديم شاركا في ائتلاف يسار الوسط الذي تشكّل في إيطاليا عشية انتخابات نيسان/أبريل ،2006 والذي ترأسه الأستاذ الجامعي ومفوض الاتحاد الأوربي السابق رومانو برودي، وبعد النجاح في الانتخابات، شاركا في الصيغة الحكومية التي انبثقت عنها. وتولى أحد رموز (ديموقراطيي اليسار) القيادية رئاسة الجمهورية، وهو جورجيو نابوليتانو. بينما تولى المسؤول الأول لحزب إعادة التأسيس الشيوعي بين العامين 1994 و،2006 النقابي العمالي فاوستو بيرتينوتّي، رئاسة مجلس النواب. وفي السنوات اللاحقة، تفرقت مكونات هذا الحزب الأخير وضعف حضوره في الهيئات التشريعية الإيطالية إلى حد التلاشي.

وهكذا، نلاحظ أن كلا التيارين الرئيسيين في اليسار الأوربي المعاصر، التيار الماركسي (الشيوعي) والتيار الاشتراكي الديمقراطي، أو بالأحرى الاجتماعي الديمقراطي، الذي تخلى معظم أحزابه عن تبني الماركسية كفكر موجِّه له، استمرّا في الحضور والنشاط السياسي طوال العقود التسعة ونيّف الأخيرة منذ الثورة البلشفية. مع أن التيار الأول تراجع نفوذه الانتخابي بشكل ملحوظ في أوربا الغربية خلال العقدين الأخيرين، على خلفية انعكاس انهيارات التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية منذ العام ،1989 ولأسباب أخرى مرتبطة بتاريخ وسياسات كل حزب من هذه الأحزاب.

أما التيار الثاني فتنوّعت في صفوفه المدارس والتأثيرات، واقترب بعضه من سياسات أحزاب اليمين والوسط في الممارسة، خاصة في المجال الاقتصادي، كما هو الحال بالنسبة لحزب العمال البريطاني في مرحلة رئيس الحكومة الأسبق توني بلير، والحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني في مرحلة المستشار السابق غيرهارت شرودر. وكان مفهوماً، في هذا السياق، أن يشهد حزب شرودر، في أواسط العقد الأول من القرن الحالي، انشقاق التيار اليساري في الحزب وانضمامه إلى الحزب الذي ورث الحزب الحاكم سابقاً في ألمانيا الشرقية حتى العام ،1990 ليشكّلا معاً حزب (اليسار).

أما في بلدان (العالم الثالث)، فقد تشكلت فيها أحزاب وتيارات يسارية مختلفة بعض الشيء عن النماذج التي تشكلت في أوربا وبقية البلدان الصناعية المتطورة. وسنتحدث عن هذه الأحزاب في مجال لاحق.

 

 

(هذه المادة هي صياغة مُطوَّرة لما جاء حول الموضوع في الفصل الأول من كتاب (اليسار والخيار الاشتراكي) للكاتب).

 

نقلاً عن (مركز الدراسات والأبحاث الماركسية)

العدد 1105 - 01/5/2024