مصر فوق صفيح ساخن

ظهر الانقسام الديني في الاستفتاء على الدستور المصري بأبشع صوره، حين وجد المصريون أنفسهم أمام مصطلحات جديدة ومستهجنة، لم تدخل يوماً قاموس الحياة المصرية وهي المؤمنون والكفار. وقد جاءت هذه المفردات على لسان رجال دينٍ لهم مكانتهم وحضورهم في المجتمع المصري. وقد تجلى ذلك في صورة خطب منبرية، إذ تحولت مساجد مصر إلى ساحات للصراع السياسي وانتقلت بالضرورة أمام الصخب الإعلامي المجنون إلى دائرة الفتاوى. واستباحة هذه المجموعة من رجال الدين الكذب والتضليل في سبيل الوصول إلى غايات مشبوهة وأهداف سريّة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد شهدت مصر لأول مرة نشوب حروب بالحجارة داخل بيوت الله وجاءت غزوات بين المدن المصرية تشبه غزوتي بدر وأحد وفتح مكة. وشاهدنا على شاشات الفضائيات معارك بين (المسلمين والكفار) وكأن التاريخ قد عاد بنا إلى أيام الإسلام الأولى.

 ففي الإسكندرية، مدينة الفكر والثقافة وإحدى أقدم وأعرق مراكز الحضارة الإنسانية القديمة والمعاصرة، كانت حرب المساجد من أسوأ المشاهد في معركة الدستور، وفيها استخدم كل فريق أحط الوسائل السلوكية واللفظية ابتداء بالاتهامات وانتهاء بالتكفير. فمعركة الدستور تركت الجسد المصري منهكاً ومقسماً ومشوهاً على كل المستويات. ففي هذا الميدان تراجعت معارك الفكر وخصومات الرأي والجدل حول مواد الدستور، لتحل مكانها معارك دينية هي أبعد ما تكون عن ثوابت العقل المصري الرشيد وإيمانه الوسطي المترفع. في معركة الدستور، الذي لم يتم التوافق على مواده، لا يوجد منتصر أو مهزوم، لأن الخاسر هو المجتمع المصري ككل. إن تيارات الإسلام السياسي، التي كانت ترى في هذه الموقعة الدامية نصراً محتماً لها، لم تحقق الأهداف التي تصورتها، فقد خرجت من المعركة دون أن تحصل على الأرقام التي حققتها من قبل، وهذا يعني أن هناك تغيراً في موقف القوى السياسية وقدراتها التنظيمية في الشارع المصري. فقد تراجع رصيد القوى الإسلامية في الشارع المصري أمام متغيرات كثيرة في المواقف والاتجاهات، بعد أن بدأ الرأي العام المصري يدرك أن هدف هذه التيارات هو الاستحواذ على السلطة في مصر وإقصاء باقي القوى لتنفيذ مخططاتهم وأجنداتهم السرية.

 وأشار بيان صادر عن جبهة الإنقاذ الوطني، التي تضم التيارات السياسية المعارضة لسيطرة الإسلام السياسي على الدولة المصرية، إلى أن نتيجة التصويت… جاءت مخالفة تماماً لنتائج الاستفتاء السابق في آذار،2011 إذ انخفضت النتائج بشكل واضح بسبب وعي الشعب، موضحاً أن وعي الشعب أسقط ما كانوا يرددونه دائماً أننا نخشى مواجهاتهم في صندوق الانتخابات. فقد واجههم الشعب المصري في صندوق الانتخابات، وهو سيواجههم في الانتخابات القادمة، وسيؤكد لهم أن عصر التضليل باسم الدين قد ولى، وأن المنافسة السياسية تدور بالأساس حول مصالح الناس… ذلك أن نسبة الذين شاركوا في الاستفتاء يمثلون

 4,33% فقط من جملة الذين يحق لهم التصويت. وحين يؤيد 64% من هذا الثلث الدستور الجديد، فهذا يعنى أن المؤيدين الحقيقيين للدستور لا تزيد نسبتهم عن 20% من جملة الناخبين الذين لهم حق التصويت. وهي نسبة تعد متدنية قياساً إلى طبيعة الوثيقة الدستورية التي يُنظر إليها على أنها عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، ويُفضل دائماً أن تأتي بنسب عالية، إثباتاً للتوافق الوطني العام حولها. ومن ناحية أخرى أدان جورج إسحاق أحد مؤسسي حركة 6 نيسان المصرية منع فئة من الصعيد هم الأقباط من الإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء على الدستور.

 

 بذور فتنة طائفية في مصر

 حاول الرئيس المصري محمد مرسي في أول خطاب له أمام مجلس الشورى المصري، بعد إعادة تشكيله، أن يبعث برسائل لطمأنة الأقباط المتخوفين من مزيد من التهميش، ومن محاولة جّرهم إلى شراك الفتنة الطائفية، إذ شدد في كلمته التي حضرها بطريرك الأقباط الأرثوذكس تواضروس الثاني الذي كان يجاور شيخ الأزهر أحمد الطيب، على أن (الحرية للجميع على اختلاف انتمائهم الديني، مسلمين ومسيحيين، واختلاف معتقدادتهم السياسية). وسعى أيضاً إلى تهدئة غضب القضاة، متعهداً ب (تعزيز سلطان القضاء وضمان استقلاله). كما سعى إلى تهدئة المخاوف من حملة تضييق تستهدف الإعلام، مؤكداً أن الدولة (لا يمكن أن تقوم من دون إعلام حر بعيداً من سطوة السلطة). لكنه لمّح إلى أن بعض وسائل الإعلام يديرها (رساميل فاسدة من أصحاب المصالح)، وهو الاتهام الذي درجت جماعة (الإخوان المسلمين) على توجيهه لكل وسيلة إعلام تنتقد سلوك وتصرف أعضائها.

 هذا الخطاب يأتي بعد أن وقف خطيب وسياسي إسلامي مفوه وبارع على منصة منصوبة في ميدان نهضة مصر، أمام حشود كبيرة من المصريين البسطاء، الذين تم شحنهم من الأرياف والأقاليم في حافلات نقل على حساب منظمي الفعالية ليتظاهروا في القاهرة، (دفاعاً عن مرسي والشريعة الإسلامية). رابطاً بين مرسي والشريعة بطريقة غير مباشرة، الذي سيعني الربط مباشرة بين حكم (الإخوان) والإسلام. من الذي يريد إذن إسقاط (الإسلام) ومنعه من الحكم في مصر؟ يخطب السياسي والداعية البارع في الجمهور المحتشد بقوة وحماسة، ويقول بوضوح: (رسالة إلى الكنيسة المصرية من مصري مسلم، والله ثم والله، إذا تآمرتم واتحدتم مع الفلول على إسقاط مرسي، فسيكون لنا شأن آخر). لا يقف الخطيب عند هذا الحد، لكنه يشير إلى أمرين: أولهما أن (تقارير أفادت بأن 60% من المتظاهرين عند الاتحادية من الأقباط. وثانيهما أنه يعرف بأمر اجتماع ضم قيادات من جبهة الإنقاذ الوطني وبعض الأقباط لإشعال الميادين في مصر، سعياً لإسقاط مرسي). وعند هذه اللحظة بالذات، يقاطع أحد الأنصار الموجودين على المنصة الخطيب البارع، ويهتف بالصوت العالي: (بالروح بالدم نفديك يا إسلام).

 يطلق السياسي تقييماً يقول إن 60% من المتظاهرين (المعارضين لاحقاً) من الأقباط، ثم يصير التقييم (تقريراً)، ويوقف المتظاهرون المسلمون (الأخيار) مسيحيين (أشراراً) عند قصر الاتحادية، ويحذر مقدمو البرامج في القنوات الإسلامية الأقباط من (الاحتماء بالخارج)، ويؤكدون أنهم يقودون التصويت ضد الدستور مع من (يعادي الإسلام). ثم يهددهم الداعية الجماهيري من على منصة (نهضة مصر)، قبل أن يختم المناصر بهتاف آخر هو: (بالروح بالدم نفديك يا إسلام). إنها لعبة سهلة وسخيفة، لم تتعلمها الأنظمة المأزومة والمتدنية الكفاءة حتى اللحظة الراهنة: (حينما تفقد شعبيتك واحترام الجمهور وثقته، ويظهر عجزك وتدنِّي قدراتك بوضوح، فإن الحل الوحيد لكسب المعركة، أو على الأقل إدامتها، شحن الجمهور البسيط بالعواطف الدينية، عبر ادعاء أن أحدهم يشن هجمة على عقيدته).

 وهكذا، عندما نرى أن من يؤجج الفتنة الطائفية هم أنفسهم المدافعون والمنافحون عن برنامج الإسلام السياسي، وعندما نلاحظ أن القنوات التي غمز ولمّح إليها الرئيس محمد مرسي، هي من تنفخ النار في رماد الفتنة الطائفية. يحق لنا أن نتساءل: هل يريد تيار الإسلام السياسي أن يلعب على وتر الفتنة الطائفية لحسابات داخلية بحتة؟ أم أن هناك قوى خفية تدفع في هذا الاتجاه لتحقيق أهداف وخدمة برامج معينة مرتبطة بملفات إقليمية ودولية متعلقة بالصراع على منطقة الشرق الأوسط؟ الجواب عن هذا السؤال سيتوضح في الأشهر القليلة القادمة.

 

 الدولة العميقة وكهنة المعبد السرّي

 الأزمة السياسية والدستورية التي تشهدها مصر الآن دفعت الكثير من المحللين للقول بأن الدولة العميقة في مصر هي التي تتسبب في كل ما نعيش فيه. ولكن من هي هذه الدولة التي تتحرك في الخفاء للحيلولة دون حدوث تطور ديمقراطي حقيقي في مصر، وتسعى أيضاً للإبقاء على النظام القديم كي تستطيع تنفيذ مخططاتها وتحمي مصالحها في الدولة المصرية.

 الدولة العميقة اسم كان وما زال شائع الاستعمال في الخطاب السياسي التركي(1) – وفي بعض البلدان الأخرى، وخاصة أمريكا اللاتينية – والمقصود به هو شبكة من العملاء المنتمين إلى تنظيم سري غير رسمي وتربطهم مصالح واسعة مع قوى داخلية وخارجية، ونقطة القوة الأساسية في هذا التنظيم هو أن قيادته العليا تشغل مناصب رسمية في مؤسسات الدولة المدنية والسياسية والإعلامية والأجهزة الأمنية والعسكرية، وهذا ما يعطيها قوة هائلة على التخفي والفاعلية في تحقيق أهدافها في آن واحد من خلال تسخير مؤسسات الدولة الرسمية ذاتها لخدمة الأهداف غير المشروعة للدولة العميقة.

 وهي ليست تنظيماً خارجاً على القانون فحسب، بل هي تنظيم يعمل من داخل مؤسسات الدولة، وفي يده صنع واتخاذ قرارات خطيرة باسمها بحكم المناصب الرسمية التي يشغلها أعضاؤه. وهو تنظيم له وجهان: وجه خفي لا يعلمه إلا أعضاء المنظمة السرية. وآخر علني يظهر به في صورة مسؤول حكومي، أو حزبي، أو نقابي، أو نائب في البرلمان، أو مسؤول عسكري أو أمني رفيع الرتبة، أو رجل أعمال ناجح أو صحفي مشهور، أو نجم من نجوم الفن والرياضة. ولكن الوضع في مصر مختلف كثيراً وله خصوصية، فمنذ 7 آلاف عام كان الحاكم الإله هو نفسه قائد الجيش. فكان الحاكم دائماً إلهاً أو نصف إله، وهو نفسه على رأس الجيش. فهناك إذن تجسيد عقائدي وتاريخي لهذا المفهوم. وتقوم الدولة العميقة في مصر على تضافر بين أهل السلطة وأهل الثروة وأهل الأمن. ومن الطريف أن الدول التي شهدت الربيع العربي كان يوجد بها هذا التضافر الغريب بين هذه القوى الثلاث، ولهذا شهدت جميعاً قيام ثورات. وهذه العلاقة الثلاثية بين السلطة والثروة والأمن تجعلهم حريصين على بقاء النظام. ففي بقائه ضمان لبقائهم. فهناك وحدة في المصير بينهم، ويتضامن مع هؤلاء في تشكيل الدولة العميقة، طبقة العمد ورجال الدين والأعيان. وهي الطبقة التي ظهرت عام 1821 في عهد محمد علي باشا. وهؤلاء على مر العقود لهم علاقات ممتدة ومتشعبة مع النظام السياسي.

 هذه الدولة يراها المحللون السياسيون تقف حجر عثرة في طريق تحقيق الثورة لأهدافها، وذلك بافتعال الأزمات وخلق المشكلات التي تؤثر على الحياة اليومية للمواطن المصري، من أجل أن تحافظ على امتيازاتها ومكتسباتها. ويرون أن هذه الدولة العميقة هي التي تقف وراء الانفلات الأمني وأزمات الطاقة في مصر الآن. وقد ذهب البعض إلى اعتبار أن التيار القطبي المسيطر على مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين قد تحالف مع الدولة العميقة في سبيل تحقيق مخططات وأهداف سريّة، مدللين على ذلك بالامتيازات التي نالتها المؤسسة العسكرية في الدستور المصري الجديد(2).

 

 

 الهوامش:

 1- كانت تركيا أول دولة في الشرق الأوسط غرست فيها المخابرات المركزية الأمريكية نواة ما عرف فيما بعد (الدولة العميقة)، وذلك عام 1952. وقد كان الهدف الأساسي هو التحكم بقرارات قيادة الجيش والقيادة السياسية للدولة التركية. وبمرور الوقت تضخمت (الدولة العميقة) غير الرسمية حتى أضحت دولة موازية للدولة التركية.

 2- إن بنوداً متعددة في مسودة الدستور حررت المؤسسة العسكرية، إلى حد كبير، من مساءلة الأجهزة الرقابية على نشاطها الاقتصادي والمالي. واحتفظ جنرالات الجيش والأمن بنفوذ كبير في القرارات المتعلقة بالأمن القومي والسياسة الخارجية. كما أن هناك مادة غامضة تسمح بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وهي إحدى القضايا التي أثارت احتجاجات متكررة ضد حكم المجلس العسكري خلال العام الماضي. وإجمالاً احتفظ قادة الجيش بكثير من (الحكم الذاتي) وحافظوا على امتيازاتهم وحصانتهم دون أن يصدّعوا رؤوسهم بالتدخل المباشر في حكم البلاد. هذه المواد هي، المواد 146 و147. والمواد من 193 إلى 198 من الدستور المصري الجديد.

العدد 1105 - 01/5/2024