صاحب الزنج ودين الحرية

إن الدارس لتاريخ الدولة الإسلامية، يعلم أن طلاب العدل السياسي والاجتماعي لم يتوقفوا عن مطلبهم رغم ما تعرضوا له من تنكيل وتكفير وجور. ولم تكن ثورة الزنج سوى مظهر عملي يفعل تلك المطالب ويجسدها على أرض الواقع، مطالب الحرية والعدل الاجتماعي والسياسي.

   استمر صاحب الزنج يمهد لثورته ست سنين، فتحدث لأصحابه في أن يؤمِّروه عليهم، وأن يغامر بهم كما غامر الناس. وارتحل داعياً لنفسه بين العبيد إلى هجر ثم الإحساء ثم البادية ثم البصره كرة أخرى. وفي رمضان سنة 255هـ كان قد اتخذ القرار للقيام بمهمته التاريخية. بعد أن كان قد رتب اتصالاته بالرقيق الذين يعملون حول البصرة في كسح السباخ وإصلاح الأراضي واستخراج الملح، وفي غير ذلك من الأعمال الدنيئة الشاقة التي سخرت لها الخلافة عشرات الألوف من هذا الرقيق الإفريقي الأسود.

   ساعة الصفر اقتحم عبد الله بن محمد بعبيد ما حول البصرة مدينة البصرة، وخربها وقتل أهلها واستصفى ما عندهم من أموال، وأخذ الأسرى من أحرار العرب كما كان العرب يفعلون بغيرهم؟ وأخذ النساء الحرائر فوزعهن على أصحابه سبايا بعد أن كن ربات خدور وسادات.

   ويوماً وراء يوم كان جيش صاحب الزنج يزداد عدداً بالعبيد المحررين. ويزداد سيطرة على مساحات جديدة من أرض الخلافة، أقاليم وكور أصبحت تدفع الخراج لعبد الله بن محمد، تماماً كما فعلت جيوش العرب زمن الغزو الفاتح. ودخلت الخلافة عدة حروب ضد الزنج وكان نصيبها المزيد من الخسارة والانكسار. وبلغ صاحب الزنج مبلغاً اتخذ معه لنفسه ولقواده مدناً جديدة للإقامة، فأنشأ لنفسه (المدينة المختارة)، وأقام لقائد من قواده (المدينة المنيعة) ولآخر (المدينة المنصورة).

   ومضى صاحب الزنج في دعوته التحريرية، بل وبدأ منعطفاً آخر عندما قرر قبول الأحرار من الفقراء في جيوشه، مما أدى إلى مزيد من هزيمة جيوش الخلافة.

   وقررت الخلافة وضع كل إمكانات الإمبراطورية للقضاء على الزنج، وحشدت جيوشاً طارئة أمكنها السيطرة على مجاري الأنهار وحصار قنوات المياه المحيطة بمناطق الزنج المحررة.

   وأخذت سفن الخليفة الموفق تجوب المياه، تنادي الزنج للتخلي عن زعيمهم. ومن استسلم منهم أمنه الموفق وأكرمه وأركبه معه سفينته ليعرض حاله على زملائه المحاصرين، مع عرض آخر لرؤوس من قاوم من الزنج، فبدأ الجيش الثائر يستشعر الضعف والهوان والرهبة. وإزاء الحصار انتهى الأمر باستسلام العبيد فرادى وجماعات لجيوش دولة الخلافة.

   يرى المؤرخون المسلمون أن عبد الله بن محمد لم يكن إلا مغامراً شريراً تسبب في فتنة وخراب طمعاً في الرياسة. وتجدهم لا يسمونه إلا الخبيث واللعين، ولا يصفونه إلا بعدو الله وعدو المسلمين. لكن تراهم بماذا كانوا يسمونه لو كان هو المنتصر؟ لذلك يرى باحثون محدثون ومنهم أستاذنا طه حسين أنه كان رجلاً ذكي القلب بعيد الأمل دقيق الحس ضابطاً لأمره مالكاً لإرادته. كان يعيش في بغداد وعلى اتصال ببعض عبيد قصر الخلافة، فرأى الفساد عن قرب، ورأى عبادة اللذة والخلل الأخلاقي والاجتماعي فتكرهه نفسه. لكن هل كانت تكرهه لأنها كانت نفساً كريمة تحب الخير وتكره الشر وتطمع في العدل وتؤثر المعروف؟ أم كانت نفساً طموحاً تريد أن تشارك في نعيم الأحرار؟

   إن مطالعة ما حدث تطلعنا على الإجابة.

   الظاهرة الأولى اللافتة للنظر، هي ذلك الافتتان الشديد به بين الناس حتى حالفه فقراء الأحرار، وخاضوا معه المعارك متحالفين. لقد تصدَّوْا مع عبد الله لجيوش الخليفة التي فتحت بلداناً وهزمت دولاً، وانتصروا في كل المواقع عدا الأخيرة.

   يلفت النظر بشدة قول عبد الله بن محمد لأصحابه (لنغامر كما غامر الناس). كان التاريخ ماثلاً لم يمض بعد بتاريخ الفتوحات، عندما غامر العرب ففازوا بالأرض ومن عليها. لكن هذا التاريخ الماثل يبدو أنه أيضاً كان هو المثل والقدوة. فقام عبد الله بن محمد يختار لنفسه راية خضراء، كتب عليها الآيات: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون).

   لقد جعل الحرب في سبيل الحرية، حرباً من المؤمنين ضد المشركين، كما هو موضوع الآيات. وجعل حربه حقاً يقف الله بجانبه ضد الخلافة ونظامها كله، أصبحت هي الباطل.

   يلفت النظر أيضاً وفاء صاحب الزنج لاتباعه بما كان يعد.

   لقد أدرك عبد الله بن محمد خلل نظام الخلافة المقدسة وحلفها المشيخي، لكنه لم يستطع أن يجد أمامه بديلاً يعرفه ويفهمه لثقافته الإسلامية التي كان يتمسك بها بإيمان عظيم، أبداً لم يتصور صاحب الزنج ولا الزنج المسلمون أن الظلم يمكن أن يأتي من النظام الديني للحياة، فالشريعة مقدسة لذلك هي سليمة بالتمام، والخطأ إنما هو في التطبيق، في الأشخاص كالخليفة وحاشيته وفقهاؤه. لذلك عندما انتصر الزنج استخدموا نفس الآليات مع أسيادهم السابقين، العبيد حالياً. ولم يكن يرى أن هناك نظاماً أفضل من النظام الإسلامي فطبق شريعته بإخلاص، فأذاق العرب مرارة الكأس الذي أذاقوه لمختلف الشعوب. فاستمر الظلم رغم تبدل الشخوص. كل ما حدث هو أن العبد قد أصبح سيداً، والمظلوم ظالماً، والمجلود جلاداً. لذلك عندما انتصر الزنج ظل الظلم هو صاحب السلطة، لذلك عاد الزنج مع هزيمتهم النهائية أمام جيوش الإمبراطورية عبيداً مرة أخرى، لأنهم لم يكونوا مؤهلين لاستبدال ثقافة أكثر نضوجاً بتلك الثقافة، ثقافة تقدس الحرية والكرامة والإنسانية والعدل والمساواة لكل البشر.

   لقد كانت القاعدة ظالمة منذ سبارتاكوس وما بعد سبارتاكوس، ومنذ الفتوحات ومنذ الزنج وما بعد الزنج، حتى اجتمع الإنسان عبر نضالات طويلة في عالم الحريات، ليستكمل مسيرة سبارتاكوس وصاحب الزنج، ليجبر العالم كله مسلمين وغير مسلمين للتخلص من عار اتجار الإنسان بأخيه الإنسان.

  

نقلاً عن (مركز الدراسات والأبحاث الماركسية)

العدد 1105 - 01/5/2024