بلفور جديد… بوجه مبادئ الحل في الأزمة (2 من 2)

في ظل قيام المشروع الإخواني المشار إليه في المنعطف الثاني نذكِّر القارئ أن حركة الإخوان المسلمين وغيرها من الحركات الدينية والقومية والمتطرفة قد نشأت عشية النهضة العربية مع بدايات وأواسط القرن الماضي، كرد فعل عليها (النهضة القانونية). ونتيجة لتوطد الكيان الدستوري للدولة المدنية. كما نذكر أن الدول الاستعمارية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، كانت قد دعمت تلك الحركات لتقويتها والتهديد بها عند الحاجة إلى ضمان ارتباط الأنظمة السياسية بمصالحها. وكذلك لخلق حالة الفوضى والتمردات المفتعلة في مراكز الاستقرار السياسي لبعض الدول العظمى. وليس تنظيم القاعدة وحركة الإخوان المسلمين في مصر وغيرها والحركات المتمردة في جنوب السودان والهند وباكستان وجنوب الاتحاد الروسي، ليست سوى بعض الأدلة القاطعة على ارتباط تلك الحركات بمصالح القوى الإمبريالية المهيمنة. وهو شاهد على مجريات التمرد المسلح في سورية في هذه الأوقات، إذ وجدت تلك القوى الفرصة الذهبية السانحة لتبديد المشروع العربي القومي والقضاء على الأنظمة السياسية التي تعترض قيام المشروع الصهيوني، وربط الأنظمة البديلة، لا سيما الأنظمة السياسية المرتبطة باقتصادات الدول السياسية.

وفي مرحلتنا التاريخية المعاصرة أضحت الحاجة إلى دعم هذا المشروع الإسلامي الفئوي مسألة لا جدال فيها، لا لفصم عرى تضامن الشعوب العربية فحسب، وإنما لأنه مشروع متمم للمصالح الغربية والصهيونية في المنطقة. فقد أضحى هذا المشروع الفئوي يستهدف إنجاز التغييرات الجيوسياسية التي عجز عن تحقيقها المشروع الصهيوني في مرحلتنا التاريخية المعاصرة، وخاصة بعد تنامي القوى العالمية الجديدة السيادية التي لا تسمح باستخدام أدوات الهيمنة الاستعمارية السابقة، فكان لا بد لقوى الهيمنة الغربية من إتمام مشروع العولمة السياسية بطريق قلب الأنظمة السيادية، ودعم المشاريع العرقية والدينية وربطها بمصالحها بوسائل إغواء تلك الحركات بالوصول إلى السلطة السياسية. فمن الثابت اليوم، وخاصة بعد الاكتشافات النفطية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، أن لهذه الاكتشافات دوراً حاسماً في الإسراع بدعم المشاريع الفئوية المعادية لأسس المجتمع المدني، بهدف إلحاق الأنظمة البديلة المشار إليها بالدول العربية النفطية، وبالبيروقراطية الدولية، أي الدول غير السيادية التي تنجز مصالح الدول الإمبريالية.

– ونخلص بعد كل ما ذكرنا إلى المنعطف الرابع وهو غاية هذا البحث. ويتركز حول شرعية النظام السياسي ودور القوى السياسية والنظم الحزبية في إرساء المبادئ القانونية الأساسية التي تكفل مبدأ الشرعية والتكامل القومي والعملية القانونية لأسس التنمية والتحديث السياسي.

– ولا جدال حول أن أحد المؤشرات الحاسمة التي تشكل امتحاناً حقيقياً لشرعية النظام السياسي القائم، ما إذا كان التغيير المطلوب من التنافسية الحزبية هو تغيير الأشخاص أم تغيير نظام الحكم. وبمعنى أوضح إذا كانت النظرية القانونية للنظام السياسي التنافسي تهدف إلى تغيير الأشخاص أم تغيير نظام الحكم. فإذا كان التغيير السياسي المطلوب هو تغيير الأشخاص في السلطة، فإن هذا الأمر يتعلق بعملية انتقال السلطة أي الخلافة. أما إذا كان التغيير هو سحب الشرعية من نظام الحكم فإننا أمام أزمة شرعية.

– ومن هنا تكشف عملية انتقال السلطة عند إقرارها ما إذا كانت النظم التنافسية تسعى إلى هدم نظام الحكم، أي هدم النظام الدستوري، أم تسعى إلى تنظيم عملية انتقال السلطة. مما يكشف للعيان أن جميع الفئات الاجتماعية والسياسية، وعلى وجه الخصوص النظم الحزبية التي ترفض الانضمام إلى المشاركة في تنظيم عملية انتقال السلطة، تبتغي هدم النظام الدستوري والقضاء على مبدأ الشرعية. إذ إن الهدف من التعددية الحزبية والتنافسية والمشاركة السياسية يتمثل في تنظيم عملية انتقال السلطة، وليس القضاء على النظام القانوني للمؤسسات الدستورية، بحيث تتجلى دلالات رفض المشاركة السياسية في أن:

1ـ رفض المشاركة السياسية من قبل الفئات الاجتماعية والسياسية في عملية تنظيم السلطة وانتقالها، يعني رفض إقرار المبدأ الدستوري الوضعي المتمثل في عدم استناد نظام الحكم إلى أساس عرقي أو ديني أو لغوي أو إقليمي. وعلى هذا الأساس تتجلى مسوغات رفض تلك التنظيمات المشاركة في الانضمام لعملية انتقال السلطة وفقاً للمبدأ المستقر في الدساتير المقارنة، والذي لا يجيز قيام السلطة على أساس ديني أو عرقي أو لغوي.

2ـ رفض بعض الفئات النخبوية وبعض الحركات السياسية، وبضمنها بعض النظم الحزبية، الانضمام إلى عملية تنظيم انتقال السلطة هو رفض لمبدأ التعددية الحزبية وتنظيم انتقال السلطة من حزب إلى آخر، مستبعدة هذه الأحزاب مما يعرف في الدول الجديدة وبلدان العالم الثالث (أزمة النظم الحزبية)، أي عجز الأحزاب الوطنية وغيرها عن إدارة الصراع السياسي نتيجة للأزمات التي تعانيها تلك الأحزاب داخل منظومتها الحزبية نفسها. وأهم هذه الأزمات (عدم وجود قواعد جماهيرية في المجتمع، شيخوخة القيادات الحزبية، التنافس الحزبي داخل الحزب). كل هذه الأسباب تعرف بأزمة التنظيم الحزبي، التي تدفع تلك الأحزاب إلى الإحجام عن المشاركة السياسية وتحقيق الاستقرار السياسي.

3ـ كما يستهدف عدم الانضمام إلى عملية تنظيم السلطة وانتقالها، استبعاداً لمبدأ التكامل القومي. إذ إن رفض الفئات الدينية أو العرقية أو غيرها، ذلك الانضمام يفيد الرفض للولاء القومي وهوية الدولة، وهو أحد المبادئ الدستورية المطلقة في الدساتير المقارنة. ولا يشذ عنها سوى الكيان الإسرائيلي الذي ينظم كيانه على أساس ديني.

– يستفاد من جميع أشكال الرفض المشار إليها، رغبتها في إسقاط مبدأ الشرعية والتكامل القومي والتفرد بوضع الوثيقة الدستورية عن طريق الاستيلاء على السلطة أولاً. ومن ثم إدراج المبادئ الفئوية أو العرقية بعد ذلك، وهو الشيء الذي تشهده مجريات التغيير السياسي في مصر.

– ونشير في خاتمة هذه القراءة أن السعي لدى جميع الفئات السياسية وراء السلطة هو ما يميز النشاط السياسي لتلك الفئات في البلدانالمتخلفة التي ترنو إلى التحديث السياسي. الأمر الذي يجعل عقبات التنمية والتحديث السياسي حاضرة في جميع الأوقات، ومتعارضة مع متطلبات النظام العام والنظام الدستوري معاً، اللذين لا جدوى من إحداث التغيير السياسي بدونهما.

– فالسلطة السياسية لا تقبل القسمة على أسس دينية أو عرقية أو لغوية، وإنما تبنى على أساس الولاءات القومية (وحدة القوميات) أي بناء الأمة وتوحيدها على أساس دستوري وقانوني تسهم في صياغته وبنائه التنظيمات السياسية غير القائمة على الأسس العرقية أو الدينية. إذ يمكن عندئذ صياغة مبدأ التكامل القومي بالأفكار القانونية التي تجعل العملية الانتخابية مستندة إلى الأسس السياسية لا على أساس الأغلبية الدينية أو العرقية أو غيرها. وهو الأمر الذي لا يمكن بلورته إلا من خلال البناء التنظيمي للقوى السياسية التي تسعى إلى التحديث والمشاركة السياسية.

– فالعملية الانتخابية تجري في البلدان المتخلفة أو السلطوية لدعم القوى الرجعية أو المتسلطة (الجيش، النخبة الارستقراطية، الفئوية الدينية..) أو بهدف إسقاط السلطة العامة أو سنداً للأغلبية العرقية أو الدينية في وقت معين من الأوقات، حين تكون المشكلة دوماً ليست في إجراء الانتخابات بل في وجود مستوى من التنظيم السياسي القائم على مبدأ الشرعية والسؤال الذي نطرحه في هذا الصدد، والمطلوب أن تجيب عنه جميع الفئات التي تدَّعي رغبتها في الانتقال إلى الديمقراطية. وإذا كان لا يمكن الحصول على الحرية دون قيام النظام الدستوري الذي يكفل قيام البناء التنظيمي للمشاركة السياسية والأشكال المؤسسية لتلك التنظيمات، فكيف يمكننا الحصول على هذا النظام؟ أبالتمرد المسلح، أم برفض الحوار السياسي، أم بالعملية الانتخابية؟ بصرف النظر عن الولاءات القومية الأخرى؟!

إن أزمات التنمية السياسية وعقبات تبدل الهوية والعنف والتحلل السياسي كفيلة برصد الإجابة عن هذا السؤال.

نخلص مما تقدم إلى ما لا نود أن يخلص إليه المشروع التآمري الفئوي، وألا يكون لأي من الحركات السياسية دور يشبه الدور الذي لعبه القادة العرب إبان إعلان الدولة اليهودية.

العدد 1105 - 01/5/2024