بلفور جديد… بوجه مبادئ الحل في الأزمة (1 من 2)

إن النظرية القانونية التي جعلت للقوى السياسية دوراً في إرساء مبادئ الشرعية والتكامل القومي وقيام تلك القوى بوظائفها التقليدية، وعلى رأسها التنمية والتحديث السياسي، هي ثورة قانونية في المبادئ الدستورية للدول الديمقراطية التي قطعت ردحاً طويلاً في إرساء تلك المبادئ وإنشاء أشكال الترابط الاجتماعي والاقتصادي في عملية التنمية والتحديث التي تتفرد بها المجتمعات المدنية. إذ أرست بفضل تلك الأفكار القانونية الأشكال المؤسسية لوضع تلك المبادئ أساساً للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي، والتي ستظل غائبة عن جميع الشرائع الدينية حينما تكون الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع إن لم يكن الوحيد. في حين تكون لسلطة التشريع في المجتمعات الدستورية أشكال مؤسسية، الأمر الذي يوقع البلدان الساعية للتحديث ذات المرجعية  الشرائعية في محنة على مسار التحديث والتغيير الديمقراطي، كمثل هذه المحنة التي تمر بها مجتمعات الدولة الإسلامية.

– وكان لا بد لهذه المحنة أن تتفاقم عشية النهضة القانونية بين ما هو موافق للشريعة من هذه القوانين، وما هو مخالف لها. وعند الخلاف ستحكم المرجعية الدينية، دون مراجعة في مدى شرعية تلك القوانين ومطابقتها للأحكام الشرعية. وفي هذه اللحظة بالذات تحل الفتوى مكان الأشكال المؤسسية للأفكار القانونية، إذ تصبح الأخيرة بلا جدوى. وعلى هذا المنوال يمكن القياس في أغلب الأحوال.

– ففي حين تطيع تلك البلدان (المجتمعات المدنية) النصوص القانونية التي سنتها السلطة التشريعية بما في ذلك الحكام أنفسهم، إذ لا اجتهاد في معرض النص القانوني، تخضع المجتمعات الدينية للأحكام الشرعية التي لا يجوز فيها التجديد أو الإضافة، بينما تجوز فيها الفتاوى بلا حدود. إذ تفتقد تلك الفتاوى للأشكال المؤسسية التي توحد فيما بينها كما تفتقد للنصوص المؤسسية التي تعمل بموجبها.

وفي المقابل تعاني المجتمعات المدنية النامية والمتخلفة محنتها الخاصة في مسيرة النمو والتحديث السياسي حيث تسعى النخبة والأحزاب السياسية إلى ممارسة وظائفها السياسية والتنموية وهي ترى في نفسها القدرة على ممارسة تلك الوظائف التقليدية والمتمثلة في وضع البرامج السياسية للحكومة وتقديم أيديولوجية متماسكة وربط المصالح وتجميعها وتحقيق المشاركة السياسية..إلخ. وبعضها مغتنم الفرصة في التعبير عن كياناتها المغمورة متعامية ومتجاهلة عن عمد في أغلب الأحوال أن هذه الوظائف التقليدية، التي لا خلاف حولها، تتطلب عصراً من الاستقرار السياسي ودرجة عالية من المشاركة السياسية. والأهم من هذا كله الحفاظ على شرعية النظام السياسي والتكامل القومي والمعبر عنهما بمبدأ الشرعية (الوفاق والتكامل الدستوري) عطفاً في الأصل على ما تقتضيه مبادئ التنمية والتحديث السياسي.

– فالصراع على السلطة في ظل الأزمات يطرح مبدأ الشرعية على المحك، وهواجس النزاع الأهلي بدلاً من التكامل القومي والوفاق الوطني. في حين تأخذ النخب والأحزاب السياسية التي تعارض نظام الحكم هذه الأزمات والمعرف عنها في الأدب السياسي  مقومات التنمية  بالحسبان، والتي يشكل التغلب عليها، أي على أزمات التحديث، استراتيجية التنمية والتحديث السياسي. إذ يبدو من الواضح عند جميع دارسي التنمية السياسية أن جميع الكيانات المتعارضة فيما بينها، والمتعارضة كذلك مع النظام السياسي القائم، الرافضة للحوار والتحالف الوطني، تهدف بقصد أو بغير قصد إلى هدم النظام الدستوري وإلى تأجيج النزاع السياسي وتشتيت مبدأ التكامل القومي.

– في حين أضحى من الثابت اليوم، وفي عصر التنمية السياسية والتحديث التنموي  كما هو معروف في أدبيات علم السياسة  أنه لم يعد من الجائز أن تسعى الأحزاب السياسية وغيرها من الفئات البيروقراطية والنخبوية إلى السلطة بغير الطرق الدستورية. الأمر الذي يميز إلى زمن ليس بالقريب بين الدول المدنية والأخرى المتخلفة. ولا بد أن ما يحصل اليوم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يحيّر دارس العلم السياسي بهذا المعنى. بل ربما يعزو ما يحصل اليوم إلى حدة التحولات السياسية في شرق أوربا وروسيا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية في مواجهتها لمشاريع هيمنة الدول الغربية (العولمة السياسية).

وتشير هذه التحولات إلى حقيقة جوهرُها اقتصادي، يتمثل في النمو الاقتصادي المتسارع لدول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية التي تتمتع باقتصاديات سيادية ومتحالفة فيما بينها بموجب اتفاقيات قانونية سيادية. أما عنوان هذه الحقيقة فهو الأزمة العالمية، وتتمثل في تصدع اقتصاديات دول الهيمنة الغربية وشركاتها المتعددة الجنسيات (البيروقراطية الدولية). ومع أن هذه الأزمة العالمية ليست هي موضوع هذا البحث، إلا أن لمنعطفاتها الهامة آثاراً حاسمة على منطقتنا العربية والشرق الأوسط عموماً.

 ونعرض بعض هذه المنعطفات لأهميتها:

 

* المنعطف الأول:

ألقت الأزمة العالمية آثارها الحرجة والثقيلة على اقتصادات الدول العربية غير النفطية، الأمر الذي أدى إلى فشل حكومات تلك الدول في إيجاد الحلول السريعة والإسعافية لمتطلبات العيش في حدوده الدنيا، وهو الأمر الذي فجر الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبروز مطالب الحرية والديمقراطية لدى الفئات الشعبية غير السياسية، وتباعاً جميع التنظيمات السياسية الأخرى.

* المنعطف الثاني:

نشوء حالة من الفوضى لدى هذه المجتمعات، وهي التي تشكل البيئة المناسبة لظهور الحركات المتشددة (الراديكالية) القومية والدينية على وجه الخصوص. وهو الأمر الذي أدى إلى نشوء المشروع الإخواني في ظل هذا المنعطف، بوصفه الأكثر تنظيماً من بين الحركات السياسية، وبوصفه بديلاً عن المشروع المدني وقياداته العلمانية المنحسر في كنف الحكومات الديكتاتورية السابقة.

* المنعطف الثالث:

انتقلت الأزمة الاقتصادية بأوزارها الثقيلة من المجتمع إلى الأنظمة السياسية الجديد، الأمر الذي أدى إلى نشوء أزمة سياسية تشير أيضاً إلى حقيقة اقتصادية، بوصف هذه المجتمعات لا تقوى على مواجهة التغييرات الاقتصادية السريعة التي تؤثر على هياكلها الاقتصادية مباشرة. الأمر الذي أضحى يهدد بانهيار اقتصادي شمولي، مما جعل الأنظمة السياسية الجديدة عاجزة عن إنكار مصالح الدول الغربية التي كانت تعيل الأنظمة السابقة.

* المنعطف الرابع:

تحرر النظم الحزبية والقوى الوطنية من القيود التي كانت تمارسها حكومات الأنظمة السابقة، وظهور الحاجة الملحة إلى ممارسة دورها في مكافحة التحلل السياسي والعنف في المجتمع.

العدد 1105 - 01/5/2024