ما بين خوذة الجنرال وعباءة الإمام

منذ نحو سنتين تعيش جمهورية مصر العربية حالة من الغليان الشعبي والتوتر السياسي والاجتماعي، يحتاج المرء معها إلى تحديد طبيعة هذه الحالة وماهيتها. ومن هذا المنطلق نستطيع أن نسأل السؤال التالي: هل ما حدث في 25 كانون الثاني 2011 هو ثورة ضد النظام الحاكم في مصر؟ وإن كانت ثورة فما هي طبيعتها وغايتها؟ وهل حققت شعاراتها التي كان أبرزها (الشعب يريد إسقاط النظام) (عيش، حرية، عدالة إنسانية)، وتفكيك مؤسسات الدولة وإعادة بنائها من جديد؟ أم أن ما حدث كان شيئاً آخر؟

من حيث المبدأ نستطيع أن نقول إن ما حدث في مصر في 25 كانون الثاني حتى صدور بيان الاستقالة الشهير(1) الذي أذاعه اللواء عمر سليمان، كان عبارة عن نصف ثورة ونصف انقلاب عسكري. هذه العملية كانت تهدف إلى إقصاء رأس النظام والمجموعة التي تدور في فلكه، مع الحفاظ على مؤسسات النظام الأخرى والعمل على إصلاحها من الفساد الذي عشش فيها، نتيجة ثلاثين عاماً من حكم الرئيس محمد حسني مبارك. وبعبارة أخرى، إن ما حدث في مصر كان عبارة عن إسقاط للنظام وإبقاء للدولة.

هذه الثورة التي حدثت ضمن الدولة، فرضت على جميع اللاعبين على مسرح السياسة الداخلية في مصر احترام القواعد الناظمة للحياة السياسية المصرية (الدستور والقوانين المرعية في البلاد) وعدم الخروج عليها لأي سبب من الأسباب التي يراها الفرقاء واجبة. وإن كان ثمة ضرورة أو حاجة للتغيير فعليهم التقيّد بالإجراءات الشكلية التي ينص عليها الدستور واللوائح والقوانين النافذة في البلاد. ولكن ما حدث يوم 22 تشرين الثاني 2012 من قرارات أصدرها الرئيس محمد مرسي، وما حدث قبل ذلك من تفرّد التيارات الإسلامية ممثلةً بالإخوان المسلمين والسلفيين بكتابة مواد الدستور المصري، جعلت المصريين يدقون نواقيس الخطر محذرين من خطر حدوث ثورة على الدولة، ثورة يقودها الإسلاميون تعيد إنتاج الدكتاتورية ولكن بصبغة دينية هذه المرة.

هذه الجماعات، العابرة للحدود الوطنية والقومية، تحمل فكراً مناهضاً لمفهوم الدولة – الأمة. هذا الفكر بمخزونه التراثي والديني والقيمي قائم على قراءة أحادية الجانب لتاريخ المنطقة. والتاريخ بالنسبة لمعتنقي هذه الأفكار يبدأ بمكان وزمان محددين (لحظة التأسيس أو بدء التكوين) ويفترض نهاية لهذا التاريخ بإعلان انتصاره على باقي العالم(2). هذه الأيديولوجية التي تعتنقها تيارات الإسلام السياسي بدأت تؤرق بعض صناع القرار في العالم الغربي خوفاً من دخول هذه القوى السياسية الدينية في مغامرات غير محسوبة العواقب تؤدي إلى تفجير الصراع في منطقة هي الحبل السرّي لاقتصادات هذه الدول.

 

ثورة دموية … انقلاب عسكري … أم حرب أهلية!؟

يبدو أن العد العكسي لتيارات الإسلام السياسي في مصر قد بدأ، فبتحريضهم على قتل الخصوم السياسيين للرئيس محمد مرسي والمعارضين للفكر الإقصائي والرجعي الذي تعتنقه هذه الجماعات، وتصويرهم للرأي العام بأنهم كفرة لا يريدون تطبيق  الشريعة وتعاليم الإسلام في المجتمع، تكون هذه الجماعات قد تجاوزت دائرة المسموح في الممارسة السياسية وبدأت بدخول دائرة المحظور، وخصوصاً بعدما بدأت الميليشيات المسلحة التابعة لها بالظهور علناً وقيامها بالاعتداء على المواطنين.

فبعد أن بدأ المصريون بالتظاهر في ميدان التحرير في قلب العاصمة (القاهرة) وكل الميادين الأهلية في المحافظات المصرية ضد تحوّل الرئيس المصري إلى فرعون جديد يجلس على عرش مصر، بدأت أجهزة الإعلام في تيارات الإسلام السياسي بتشبيه المتظاهرين بجنود جيش أبرهة الحبشي الذي يريد هدم الإعلان الدستوري الذي يشبه الكعبة، الأمر الذي جعل بعض الظرفاء المصريين يتساءلون: هل لَعِب الإخوان والسلفيون دور الطيور الأبابيل التي كانت ترمي المحتشدين في الميادين المصرية، وخصوصاً عند قصر الاتحادية (3)، بحجارةٍ من سجيل؟ هذه العملية جعلت المراقبين يتساءلون عما إذا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين دولة داخل الدولة، وأصبحت عناصرها المدربة تقوم بأدوار يفترض أن تقوم بها أجهزة الدولة الرسمية، مثل تفريق المظاهرات (بالوسائل المناسبة)، اعتقال الأفراد والتحقيق معهم، وحماية مقر إقامة رئيس الجمهورية.

فبمحاولة تيارات الإسلام السياسي إنهاء الفترة الانتقالية في البلاد بفرض دستور يمثّل وجهة نظرها ورؤيتها لمصر ما بعد مبارك، عملت على تقويض الثقة بينها وبين باقي أفراد الشعب المصري وأنهت كل أمل ببناء توافق لمواجهة التحديات التي تعصف في البلاد، بدءاً من الاقتصاد المتداعي وانتهاءً بتأمين رغيف الخبز للمواطن المصري. وجعلت الرئيس المصري الذي تعّهد عند انتخابه أن يكون رئيساً لكل المصريين يبدو وكأنه الواجهة التي يحكم من خلفها مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين برئاسة المرشد العام للجماعة السيد محمد بديع. كل هذا جعل الوضع المصري يتجه إلى السيناريوهات التالية:

– استمرار الفوضى نتيجة الانقسام الحاد في المجتمع المصري، والتي قد تتطور إلى حرب أهلية سيكون وقودها سكان العشوائيات والطبقات المسحوقة والفقيرة في مصر.

– انقلاب عسكري تقوم به القوات المسلحة المصرية.

– تحالف يقوم بين القوات المسلحة والإخوان المسلمين لتقاسم السيطرة على مقدرات البلاد، ويقوم بإقصاء باقي الفرقاء السياسيين من مسرح الحياة العامة المصرية. هذا التحالف يمنح كبار الضباط في القوات المسلحة المصرية حكماً ذاتياً نسبياً مقابل الاستجابة لطموحات الإخوان السياسية.(4)

كل هذا لم يمنع وزير الدفاع المصري الفريق عبد الفتاح السيسي من توجيه الدعوة لأتباع الرئيس مرسي وخصومه السياسيين إلى اللقاء (للتواصل الإنساني والالتحام الوطني في حب مصر). وموجّهاً تحذيراً دبلوماسياً لجميع الأطراف من وجود حدود لصبر الجيش المصري على الأوضاع التي تسود البلاد.

ومن جهة أخرى، لم تشهد مصر تسويات كثيرة في مجال تنظيم الحياة السياسية في البلاد منذ الانقلاب العسكري ضد الملك فاروق الذي نفّذه  الضباط الأحرار بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر عام 1952 حتى هذه اللحظات المفصلية في تاريخ مصر الحديث والمعاصر. فبدلاً من قيام دولة على خدمة مصالح الشعب أصبح الشعب في خدمة الدولة، ولم تخضع تلك الدولة للمحاسبة. وليس مفاجئاً أن تحارب عقلية الطبقة السياسية في مصر مفهوم التعددية اليوم بغض النظر عن نوايا الجماعات الحاكمة الآن (القوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين). فعقلية هذه الجماعات تعكس واقعاً اجتماعياً مترسّخاً يساعده الوضع العام في مصر على القبول باستبدال نظام استبدادي بآخر، لأنه النموذج السياسي الوحيد الذي يعرفه الناس هناك منذ فجر التاريخ في مصر وحتى الآن.

 

مصر إلى أين؟

لقد تحولت حكايات الثورة الجملية ومغامرات ساحة التحرير إلى واقع مرير في دولة تفتقر إلى حكومة فاعلة قادرة على إصدار قوانين تنظّم الحياة في المجتمع المصري، ولا يمكنها توفير الخدمات العامة الأساسية أو معالجة المشاكل الاقتصادية الصعبة التي كانت من الأسباب المباشرة للانتفاضة الشعبية ضد نظام الرئيس محمد حسني مبارك. ومما ساعد على رسم صورة قاتمة للمشهد المصري، شعور الثوار الشباب بالاستياء من الإخوان المسلمين لأنهم كانوا  أبرز المستفيدين من ثورة لم يطلقوها ولم يشاركوا بها. وبدأ الناشطون في التيارات العلمانية والليبرالية يتشككون من الأجندة السرية للإسلاميين (الإخوان المسلمين وحزب النور السلفي) التي تهدف إلى إنشاء دولة إسلامية في مصر.

ومن جهة أخرى، يبدو أن تيارات الإسلام السياسي لا تتبادل مشاعر الود، ومساحة الثقة بينها آخذة في التناقص. إذ يرى الإخوان المسلمون أن السلفيين محافظون، رجعيون وساذجون، بينما ينتقد السلفيون الإخوان لأنهم تنازلوا عن مبادئ الإسلام على حد زعمهم.

في التاريخ المصري القديم نقرأ عن الفرعون مينا الذي جعل مصر قوة عظمى في تاريخ المنطقة القديم، فهل ستكون تيارات الإسلام السياسي السبب في شق مصر إلى قسمين؟ فتشبثهم بالسلطة وتفصيل الدستور على قياسهم سيعيد إنتاج الدكتاتورية، ولكن بغطاء ديني يقوم على التكفير والنبذ والقهر والاستبداد. الأمر الذي قد يجعل من الخيار السوداني هو الحل النهائي للأزمة التي تعصف في مصر.

فالدولة في النهاية هي الوعاء الجامع لكل أطياف المجتمع، تنظّم تنوعه واختلافه لصالح الخير العام. وحتى تستطيع هذه الأطياف أن تعيش بتناغم وسلام، يجب عليها أن تقدّم تنازلات أو أن تتفاوض على تسويات، وهذا يعني أن تضع كل فئة مطلقاتها ومقدّساتها جانباً وتنظر إلى شريكها في الوطن من منطلق إنساني فقط، مما يؤدي إلى أن تكون العبادة فردية والمعاملة جماعية. أما إذا حاول فريق طرح مقدّساته وفرض آرائه وتصوراته على الآخرين فيكون قد بدأ بخلط الدين بالسياسة مما قد يؤدي إلى نشوب الحرب الأهلية في هذا المجتمع.

 

الهوامش:

(1) – بتاريخ 11 شباط 2011 قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية وكلّف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد.

(2)- في 20 كانون الأول 2012 دعا المرشد العام للإخوان المسلمين السيد محمد بديع في رسالته الأسبوعية، الشعب المصري أن يتقدم لا من أجل مصر بل من أجل تخليص البشرية من ويلاتها وآلامها التي حلت بها بسبب النظام العالمي الجديد. وأوضح أن العالم عانى بسبب المنهج الشيوعي وما زال يعاني من المنهج الرأسمالي، (فالأول سحق الفرد لصالح المجتمع، والتالي سحق المجتمع وقيمه لصالح الأنانية الفردية)، (وكما انهارت النظرية الأولى ستنهار الثانية بإذن الله تعالى، ولم يبقَ للبشرية إلا ملاذهم وحصنهم بمنهاج الله والبشرية). نص الرسالة منشور على الرابط التالي:

http://almashhad.com/Articles/142422.asp

(3)- قتل 9 أشخاص وجُرح نحو 600 آخرون في الاشتباكات التي حصلت في محيط قصر الاتحادية يوم 4 كانون الثاني 2012.

(4)- مستقبل مصر الثيوقراطي: الأزمة الدستورية وسياسة الولايات المتحدة. روبرت سانلوف – إيرك تراغر. معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.

العدد 1105 - 01/5/2024