قطع الرؤوس بالفؤوس

لم تكن جريمة قطع رؤوس التماثيل تحدث للمرة الأولى، بل للمجموعات المسلحة خبرة في قطع رقاب الأحياء والتمثيل بجثث الأموات وفصل رؤوس تماثيل المفكرين والمبدعين والعلماء وتحطيمها، لأنها تشكل انتصاراً لهم كما يعتقدون.

وقد نعى أهالي معرة النعمان منذ أيام استشهاد تمثال الأديب والشاعر والفيلسوف السوري أبي العلاء المعري. وبحزن عميق أعزِّي أهالي المعرة ومبدعي سورية وكتابها ومثقفيها باستشهاد فقيد الريشة والقلم والقصيدة.

ليست المرة الأولى التي تحطّم تماثيل العلماء والمبدعين العرب، بل جرى ذلك في مصر والصومال وأفغانستان وغيرها.

لقد فصل سيف الإرهاب رأس أبي العلاء عن جسده. ولو كان هذا التمثال لحماً لقُطِّع وأصبح سلطان المائدة. ونسي هؤلاء القتلة الذين يفصلون رؤوس الأحياء عن أجسادهم، ورؤوس التماثيل عن قواعدها الحجرية أو البرونزية.. نسوا أن التاريخ يسجل الصفحات السود التي لا تمحوها الأيام.

كان الفيلسوف أبو العلاء زاهداً ومتقشفاً ونباتياً. أطلق عليه (رهين المحبسين). وهو الذي قال:

ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً

لما أحببتُ بالخُلدِ انفرادا

فلا هطلَتْ عليَّ ولا بأرضي

سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا

 

ومن أشهر قصائده (تلك القصيدة التي) يقول فيها:

غيرُ مُجدٍ في ملّتي واعتقادي

نَوْحُ باكٍ ولا تَرنُّمُ شادٍ

وشبيهٌ صوتُ النَّعيِّ إذا قيـ

سَ بصوتِ البشيرِ في كلِّ نادِ

صاحِ هذي قبورُنا تملأُ الرُّحْـ

بَ فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ؟

رُبَّ لَحْدٍ قد صارَ لَحْداً مِراراً

ضاحِكٍ من تزاحُمِ الأضدادِ

ودفينٍ على    بقايا     دفينٍ

في طويلِ   الأزمانِ والآبادِ

خفّفِ الوطءَ، ما أظنُّ أديمَ الـ

أرضِ إلاَّ من هذهِ الأجسادِ

تعبٌ كلّها الحياةُ  فما أعـ

جبُ إلاَّ من راغبٍ   في  ازديادِ

لقد كشَّر الصراع عن أنيابه، ونعق بوم الخراب في مدننا وقرانا. وتكسَّرت عقارب الزمن.. هذا الصراع السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي، بين التنوير والتكفير.. وبين معرفة الواقع والعمل على النهوض بحياة الإنسان وتحسين مستوى حياته.. وبين من يقتل العقل ويتخلّىَ عن القيم ويطفئ النور مهما كان مصدره!

إن صراعاً جديداً يسود المنطقة. وتكشف بدايته عن اصطفافات اجتماعية وسياسية أصبحت واضحة الحدود والمساحات. وما يجري في مصر وتونس أظهر للعالم الرأسمالي ولليبرالية الجديدة، أن الشعوب العربية لن ترضخ لأسطورة الإسلاميين الدموية، بعد هذه التجربة القصيرة من عمر(الإخوان المسلمين وحركة النهضة) واستلامهما السلطة في البلدين العربيين. وهؤلاء الذين يقطعون الرؤوس، ويفصلونها عن الأجساد يتصوّرون أنهم يحققون انتصاراً ثورياً، فهم يعيشون في زمن آخر مضى منذ قرون وانتهى إلى الأبد!

ومن يقف في وجه العلم وتطور البشرية في الأرض والفضاء، يعيش في غيبوبة  وفي أساطير الأحلام وكوابيس المنامات المزعجة. وأن الفرح الجنوني وصيحات التكبير والتهليل لقطع رأس تمثال أبي العلاء المعري، لهو الجنون بعينه وفقدان  فسفور التفكير السليم. فالجينات المعطوبة لم تعد قادرة على التحكم في قرارات العقل! مع أن أبا العلاء قد حدّد منزلته منذ قرون، فهو القائل:

ليَ الشرفُ الذي يطأ الثريَّا

مع الفضل الذي بهرَ العبادا

ولي نفسٌ تحلُّ بيَ الروابي

وتأبى أن تحلَّ بيَ الوهادا

تمدُّ لتقبضَ القمرَيْنِ كفّاً

وتحملُ كي تبذَّ النجمَ زادا

ابتسم أبو العلاء وسخر من مطارق القتلة وهم يحطّمون تمثاله، ويفصلون رأسه عن جسده.. وتمنَّى أن يعود إليه بصره لدقيقة واحدة، كي يرى روَّاد الجهل والغباء والعقول المغلقة.. ويقول لهم ابحثوا عن شعري وفلسفتي واقرؤوا بعضاً منها فربماتعودون إلى رشدكم

قطع الرؤوس بالفؤوس

 

باسم عبدو

 

لم تكن جريمة قطع رؤوس التماثيل تحدث للمرة الأولى، بل للمجموعات المسلحة خبرة في قطع رقاب الأحياء والتمثيل بجثث الأموات وفصل رؤوس تماثيل المفكرين والمبدعين والعلماء وتحطيمها، لأنها تشكل انتصاراً لهم كما يعتقدون.

وقد نعى أهالي معرة النعمان منذ أيام استشهاد تمثال الأديب والشاعر والفيلسوف السوري أبي العلاء المعري. وبحزن عميق أعزِّي أهالي المعرة ومبدعي سورية وكتابها ومثقفيها باستشهاد فقيد الريشة والقلم والقصيدة.

ليست المرة الأولى التي تحطّم تماثيل العلماء والمبدعين العرب، بل جرى ذلك في مصر والصومال وأفغانستان وغيرها.

لقد فصل سيف الإرهاب رأس أبي العلاء عن جسده. ولو كان هذا التمثال لحماً لقُطِّع وأصبح سلطان المائدة. ونسي هؤلاء القتلة الذين يفصلون رؤوس الأحياء عن أجسادهم، ورؤوس التماثيل عن قواعدها الحجرية أو البرونزية.. نسوا أن التاريخ يسجل الصفحات السود التي لا تمحوها الأيام.

كان الفيلسوف أبو العلاء زاهداً ومتقشفاً ونباتياً. أطلق عليه (رهين المحبسين). وهو الذي قال:

ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً

لما أحببتُ بالخُلدِ انفرادا

فلا هطلَتْ عليَّ ولا بأرضي

سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا

 

ومن أشهر قصائده (تلك القصيدة التي) يقول فيها:

غيرُ مُجدٍ في ملّتي واعتقادي

نَوْحُ باكٍ ولا تَرنُّمُ شادٍ

وشبيهٌ صوتُ النَّعيِّ إذا قيـ

سَ بصوتِ البشيرِ في كلِّ نادِ

صاحِ هذي قبورُنا تملأُ الرُّحْـ

بَ فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ؟

رُبَّ لَحْدٍ قد صارَ لَحْداً مِراراً

ضاحِكٍ من تزاحُمِ الأضدادِ

ودفينٍ على    بقايا     دفينٍ

في طويلِ   الأزمانِ والآبادِ

خفّفِ الوطءَ، ما أظنُّ أديمَ الـ

أرضِ إلاَّ من هذهِ الأجسادِ

تعبٌ كلّها الحياةُ  فما أعـ

جبُ إلاَّ من راغبٍ   في  ازديادِ

لقد كشَّر الصراع عن أنيابه، ونعق بوم الخراب في مدننا وقرانا. وتكسَّرت عقارب الزمن.. هذا الصراع السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي، بين التنوير والتكفير.. وبين معرفة الواقع والعمل على النهوض بحياة الإنسان وتحسين مستوى حياته.. وبين من يقتل العقل ويتخلّىَ عن القيم ويطفئ النور مهما كان مصدره!

إن صراعاً جديداً يسود المنطقة. وتكشف بدايته عن اصطفافات اجتماعية وسياسية أصبحت واضحة الحدود والمساحات. وما يجري في مصر وتونس أظهر للعالم الرأسمالي ولليبرالية الجديدة، أن الشعوب العربية لن ترضخ لأسطورة الإسلاميين الدموية، بعد هذه التجربة القصيرة من عمر(الإخوان المسلمين وحركة النهضة) واستلامهما السلطة في البلدين العربيين. وهؤلاء الذين يقطعون الرؤوس، ويفصلونها عن الأجساد يتصوّرون أنهم يحققون انتصاراً ثورياً، فهم يعيشون في زمن آخر مضى منذ قرون وانتهى إلى الأبد!

ومن يقف في وجه العلم وتطور البشرية في الأرض والفضاء، يعيش في غيبوبة  وفي أساطير الأحلام وكوابيس المنامات المزعجة. وأن الفرح الجنوني وصيحات التكبير والتهليل لقطع رأس تمثال أبي العلاء المعري، لهو الجنون بعينه وفقدان  فسفور التفكير السليم. فالجينات المعطوبة لم تعد قادرة على التحكم في قرارات العقل! مع أن أبا العلاء قد حدّد منزلته منذ قرون، فهو القائل:

ليَ الشرفُ الذي يطأ الثريَّا

مع الفضل الذي بهرَ العبادا

ولي نفسٌ تحلُّ بيَ الروابي

وتأبى أن تحلَّ بيَ الوهادا

تمدُّ لتقبضَ القمرَيْنِ كفّاً

وتحملُ كي تبذَّ النجمَ زادا

ابتسم أبو العلاء وسخر من مطارق القتلة وهم يحطّمون تمثاله، ويفصلون رأسه عن جسده.. وتمنَّى أن يعود إليه بصره لدقيقة واحدة، كي يرى روَّاد الجهل والغباء والعقول المغلقة.. ويقول لهم ابحثوا عن شعري وفلسفتي واقرؤوا بعضاً منها فربماتعودون إلى رشدكم

 

العدد 1105 - 01/5/2024