بالعين المجردة

في شهر آذار ينتظر السوريون وسكان نصف الكرة الشمالي اقتراب المذنب (بان ستارز) إلى أقرب نقطة من الأرض لمشاهدته بالعين المجردة، في زمن تتخلى فيه العيون عن تجردها وعن كونها مصدراً للمصداقية، وصاحبة القول الفصل في أي اختبار أو جدال. وبينما تذهب الكثير من النظريات العلمية والأطروحات الفلسفية نحو نفي فكرة (العين المجردة)، لا يزال الموروث الشعبي والحديث اليومي يميل إلى ترسيخ هذه الفكرة واعتمادها كمرجعية، فمن شاهد ب (أم عينه) لا يزال محصناً ضد أي تشكيك أو تكذيب.

كانت ظاهرة شهود العِيان في بداية الأزمة السورية منبراً اعتلته شبكات الأخبار التي تبحث عن المصداقية عن طريق نقل الأخبار ميدانياً، بواسطة أشخاص لا يميزهم عن غيرهم سوى أنهم (رأوا) الحدث. وهو ما كان له تأثير كبير على شريحة كبيرة من السوريين. بينما كان مثار تندر وسخرية لدى آخرين عدُّوا شهود العِيان فاقدين للمصداقية، لأنهم كانوا بعيدين عن الحدث الموصوف. وربما لُقِّنوا ما عليهم قوله عند الاتصال بهم. وبذلك يلجأ الإعلام إلى نظرية مقبولة شعبياً ومرذولةٍ علمياً وفلسفياً، تقول بوجود المراقب الموضوعي الذي يلاحظ ويراقب دون فرضيات مسبقة، ودون أي تحيز إلى معلومات معينة دون غيرها، وتجاهل كل ما يمكن أن يمس النظرية التي يهم ببنائها. وقد نفي المراقب الموضوعي إلى عالم المستحيلات عن طريق أوغست كونت في القرن التاسع عشر، وكارل بوبر في بدايات القرن عشرين، إذ أكد الأخير أن النظرية تسبق الملاحظة وجمع المعلومات في أي بحث علمي. أي أن العين قد أصبحت بحسب هؤلاء الفلاسفة مجرد جهاز قابل للبرمجة لتلقي إشارات معينة ومعالجتها، كما تفعل أجهزة الاستقبال المنزلية التي تلتقط إشارات الأقمار الصناعية بانتقائية وتظهرها كمادة مرئية على شاشات التلفزيون.

  (إذا لمع برق في السماء ولم يره أحد، فهل حدث هذا اللمعان؟) بهذه الفكرة البسيطة تمضي الفيزياء الكمومية أشواطاً بعيدة في العلاقة الإشكالية بين المراقب والحدث، بحيث تصبح علاقة خالق ومخلوق، وبالتالي تظل لظاهرة عبارة عن تراكب حالتين متناقضتين من الوجود والعدم، إلى أن يقوم مراقب ما بتحويل هذا التراكب إلى حالة واحدة ظهرت بسبب عملية القياس التي أجراها. ويمكن تشبيه ذلك بثمرة البرتقال التي تظل حلوة وحامضة بنفس الوقت، إلى أن يقوم متذوق ما بتقرير أي الحالتين هي، وهو ما لن يحدث دون تدخل هذا الشخص. وفي مستويات أخرى تقابلنا فلسفة الكم بأطروحة أكثر تطرفاً تقول: إن الجسيمات الما دون الذرية تغير من تصرفاتها ما أن تكتشف أنها قيد المراقبة! أي أننا لن نعلم بأي حال من الأحوال ماهية عالم الجسيمات الدقيقة إلا بمعجزة تريحنا من جملة من العوائق التي ظهرت بسبب قصور (عيننا المجردة)، وعدم قدرتها على التقصي والبحث والتمحيص. وهذا القصور ليس محصوراً بمختبرات الفيزيائيين الذريين، بل يمكن مشاهدة تداعياته في الحياة اليومية، إذ أصبح كل حديث عن الواقع المعيش مرهوناً بالشخص الذي يصفه، وبالطريقة التي يتفاعل بها هذا الواقع مع راصده.

ربما لن تحرم الظروف الراهنة سكان سورية من توجيه أبصارهم و(كاميراتهم) صوب السماء لرؤية الظواهر الفلكية من مذنبات وشهب.  لكن الأزمة السورية ستجعل العالم يعيد النظر في مفهوم النظر والمراقبة، لأنها  ستوفر قاعدة بيانات كبيرة جداً يمكن استخدامها لدراسة آلية خلق الحدث من قبل وسائل الإعلام، والتأثير الكبير على الأحداث التي توجه صوبها كاميرات التلفزيون وميكروفونات المراسلين، ونظرية الإعلام المحايد التي ربما يدق السوريون آخر مسمار في نعشها.

العدد 1105 - 01/5/2024