الأديب ومرآة أفكاره

عندما يفيض الأدب بقلم مبدعه، تتجلى المبادئ وتهل الحكم، تتوضح المناهج التي يسايرها ذلك الأديب فينضح بمكنونات دواخله، ويفيض عالمه الزاخر ليبسط صفحاته اللامعة التي تبهر القارئ، ويجذب بضوئه أعداداً وأرقاماً قياسية من الناس تتحلق حول مفرداته التي تضج بأفكاره المتألقة البراقة، فيرسم المتلقي بهاء الشخصية الأدبية التي ينهل منها معرفة وإدراكاً، ويصبح الكاتب الفارس والبطل الذي يجتاز الأزمنة وعيناه نحو أبعاد مستقبل الإنسان.

تتبعه الخطوات والعيون تلمع بمقالاته، تطير معها إلى حيث النور المحبب، فتسافر الروح بعيداً عن العتمة،  تحلق مع سيد الكلام إلى بر الأمان، آملة بالغد المشرق مستنيرة أحلامها بهذا الفيض الهدّار، وعلى الشواطئ تسترخي الأحلام منتظرة مراكب يقودها ربان الأدب محمّلة بالطمأنينة لأجيالها، تنتقل معها إلى الجزر الخضراء حيث الألوان والأطياف المتداخلة.

أما انحراف المسار واصطدام المراكب بصخور الجليد؛ فتقضي على الربان في وسط البحر، ولا يبقى سوى هيكل المركب وحده يطفو على سطح الماء.

و إذا انطفأ لمعان العيون وذبلت باسترخاء الجفون، تعود خائبة راجعة إلى الوراء قبل أن يبتلعها موج البحر، فتتلاشى صور الجزر الخضراء من أمامها لتعود إلى قواقعها الميتة التي عكست على مراياها الشخصية الأدبية الساكنة بفعلها، دون أي تغيير أو تأثير أو حركة تناسب مفاهيم الحقيقة والخيال.

فيبدو الأديب آلةً تكتب وتجمّل الكتابة بالصور والزخرفات فقط. ومن لا يعلم أن الأدب ذلك الرسول بين الكاتب والقارئ بين البشر والحياة. والأديب من يرى بعيني قلبه، فكيف للقلب أن يرى بغير إحساس؟

وكيف لنور أن يشع دون مصدر ممتلئ من خاصته ؟

فالشمس.. تمدّ الأرض بالنور المنتشر من أشعتها المنبعثة من ذاتها المتوهجة لتملأ الكون نوراً يجلو الظلمة، ويكشف الأشياء على حقيقتها، وهذا يعود إلى سر كتلتها النارية الشديدة اللهب ومنها ينبعث هذا الشعاع الرهيب، على عكس كوكب القمر الذي يتباهى بضوئه المسروق من أمه الشمس، لأن أصله مظلم.  

وإذا كانت خاصة الأديب ضياءً فلا بد من سطوع أدبه وبقائه.

إن الأديب ذلك الإنسان الذي يؤدي الرسالة بصدق، والمنطلق من فعله، من فكره، من قناعة داخلية نابعة من مفهوم يستجليه أمام أنظاره الثاقبة، وبالتالي من التضحية في سبيل تحقيق ما يؤمن به، ليكون الأديب مرآة أفكاره الحقيقية، وليكون ما بنى على الصخر لا على الرمال.

وإذا انحرف فعل الأديب عن مسار أدبه يبقى كلامه حبراً على ورق مهترئ، فلا بد من قدوم مطر شتائي ليزيل المداد ويتلف الورق.

 ومهما تشدّق المخادع على المنابر وارتفع صوته، يظل دون أثر فاعل على أرض الواقع، فيتلاشى الكلام وتنطفئ الحروف.

العدد 1105 - 01/5/2024