القمع… انقلاب العقل

عن القمع، مقاربات تحتم مقارنة المضمون ببداهة مقاربة الظلم لتعرية القمع فهماً مخضعاً ووسائل. في توثيق التأثيرات العميقة يخلص الخطاب الجمعي إلى حقب تاريخية نجم عنها عقائد تدخل ضمن منطوق الحضارة.. التاريخ (الحروب) دينية اقتصادية مغلفة بشعارات إنسانية، مغلفة بنماذج بني عليها تأثير هزيمة الذات الجمعية بما ينزلق إلى التجزئة، إلى مكونات دون الوطن والمواطن (طوائف  مذاهب)، إضافة إلى غياب آليات تمنع منطوق الإخضاع القهري الجبري بعاملَيْ (الديني المؤثر والقوى القهرية المخضعة) وقوتيهما..، وتأثراً يقابل القمع والظلم.. إرادة المواجهة ولا شأن أكانت رابحة أم خاسرة، فخيار الكفاح المدني (غاندي مثالاً)، إنما يستبطن بذاته الكفاح المسلح، فالأسس السياسية الاجتماعية الاقتصادية شكلت فحوى الاستبداد، إنها الخميرة الاهتياجية لنزعة استعمارية استكان إليها خطاب القوي دائماً، تحت هذا العنوان ينزلق الخطاب إلى اصطراع ثقافي بين مكونات الشعوب، وتصنيفات متفاوتة الدرجات.. دول (متقدمة).. دول (نامية) وهذا مصطلح أطلق إبان القرن المنصرم تتويجاً معنوياً وعملياً لقوى الاستعمار  المنتصرة، وتالياً كيف تكون الإحالة على الحقب التاريخية؟

لسوفَ نرى تماثلات البنى السياسية للقمع والظلم (إرهاب الدول)، ولسوف تنهار الثقافات وتتشقق وتتنازع اتجاه الاستبداد وإشكالياته، ودون بداهة لاتجاهات ما حيث تتثعلب الرؤى، وتنخلع الأفئدة، حيث على الدوام من يقلب الحقائق، ففي العقائد الدينية (الميتولوجيا) تنعقد أحابيل الجن والإنس، الملائك والبشر، القوة المطلقة المنظمة للكون. في السياسة.. نظرية الاستبداد (الحاكم الظالم  الطامع  المحتل الناهب الغاصب  المهيمن  القاتل).. في الاقتصاد..، التفاوت الطبقي (رأسمالية متوحشة  شركات عابرة للقارات  نهب منظم  احتكارات).. في الاجتماع.. علاقات الدول (غنية وفقيرة  شرق وغرب  منتصر ومنهزم  تسويق المنتج  استغلال الشعوب عقولاً وسواعد، وما يصح على الدول يصح على الشعوب (علائق اجتماعية  طوائف ومذاهب وأعراق  أحزاب وتيارات  يسار ويمين، دينية وقومية)، وإسقاطاً على الحروب الأهلية، يتأتى عن الظواهر التاريخية  الجمعية  محدد الوضع السياسي الاقتصادي والاجتماعي بسياقاته التراكمية بما يبدو وكأنه إسقاط الحاضر على الماضي.. بمعنى انزياح الفكرة ماضياً حاضراً ضمن دورات زمنية تتميز بالسلطة والجاه، وفيها مقاصد الأصول والجذور (ملوك  أمراء  سلاطين)، وإن تقع الحروب الأهلية (استعادة بديل القوى الأجنبية المهيمنة)، إنما تقع دون وعي المصالح وبواطن الأمور فتنجرف الكثرة (الغوغاء) عبر متاهة الدين والجهل، يقابلها وعي المصالح (النظام وماهيته  الحاكم ودوره  تدخل خارجي).. وإن عرفت بعض المراحل ضمن تمرحل الحضارات  عرفت التسامح الديني والتلاقح والتنافح الثقافي (التثاقف).. إلا أنها تبقى علامات فارقة ضمن محصلة فيها من الدمار والانهيارات (نظم  إمبراطوريات  ملايين القتلى).. وعن القتلى، أحد الأفكار المروَّجة.. أنه يجب أن تقع الحروب لأجل التوازن الديموغرافي، وذلك على قاعدة عالم الحيوان (التوازن).

فاالأفكار العليا لأزمة التطابق والتخلق الإنساني الاجتماعي، لم تتوقف سعياً، كما لم تنهزم رغم ناطحات السحب السوداء، فقراءة الخطاب الاستعماري الاستبدادي، يتقاطع والخطاب الديني التكفيري التسلطي الاستبدادي، يقابل الخطابين التفاوت الطبقي المبني على الاستغلال والقمع والنهب والظلم، والمحصلة.. استبداد حضاري مشرعن بخطب ممجوجة زائفة، وأي نظرة سريعة تستحوذ سياسة البهرجة والبلاغة، لا تعطي ترجمة وافية للقمع (حقوق المرأة  الطفل) أي قمع بشقه السياسي الاقتصادي والاجتماعي. ففي طيَّات الاستبداد يوميات القهر والقتل والظلم وانفلات القيم وانقلاب الحضارات وتعطيل العقل بقوة الخرافة والسحر. وبالنتيجة، العقل سيد القرائن والأحكام (قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري).. قطع للعقل وقطيعة، فالإعمال بالعقل يسد فوهات المدافع ويخرس المتقولين بتكفير العقل والتسليم المطلق لإرادة العابثين بالنفوس والعقول (العقل الجمعي)، فمعرفة الحق والحلال من الحرام (أحكاماً وتشريعات  مفاهيم وتحولات) تحتاج لإنعام النظر بماهيات الجنون اليومي للغرائز، بمتاهات الانزلاق في زواريب الفتن، فتدريب النفس جهاد مقدس وتدبير التصرف حسناً وإرادة للذات المتألمة المنصرة، فإذا ما انتهى العقل إلى مصاف الرؤى الواقعية  التغيير، تساقط العابثون من أبراجهم  هؤلاء المانحين صكوك الغفران  الجنة والنار..، ونزلوا إلى جحورهم.. فالإعلاء للعقل، للإرادة الحرة، لمقارعة الأعداء الحقيقيين (الصهيوني وحلفائه)..، إذ كيف يدعو للإيمان من يدعو وخلاصه ظناً يقينياً ينتهي بالقتل والإبادة وتدمير البلاد.

ولا ننسى إذ يقابل هذا الاستبداد الميتولوجي استبداد الهيمنة والتبعية والتزوير، المانح سياقاً الأمان للعدو (الأمن الإسرائيلي) والناهب للثروات (النفط العربي  الذي هو ملك الشعوب..)، فأين العقلانية والوازع والرادع والتمعن في بلاد الربيع العربي..؟ وكيف للعقل نزعة الاهتداء للمطلق المتعالي وطرق السماوات.. ولا يهتدي من العدو ومَنْ الصديق (الأهل)..؟ وكيف للعقل يطلب القمع والظلم ولا يرجو الخير.. كمن يطلب الجنة بالنار..؟!

 

 عن «النداء» اللبنانية

العدد 1107 - 22/5/2024