أوباما وفرنسا والإمبريالية الأوريلية الجديدة

لا أحد يعرف على وجه الدقة ماذا تفعل فرنسا في مالي، بعد أن انقضَّت بهذه الجسارة على أفغانستان وليبيا وسورية؟ يعتقد البعض أننا ننصاع لأجندة أمريكية، إذ إن باراك أوباما قد قرَّر عدم توسيخ يده في كثير من أماكن هذا العالم الموحلة. وبحسب ويليام إنجدال، فإن فرنسا الآن هي مجرد مرتزق مأجور من الأمريكيين. ويعتقد آخرون أننا، مرة أخرى، أداة بيد قطر: إن رئيسنا الذي كان فرنسيًّا يبدو الآن رعيةً قطريةً مُترَفَةً بأكثر مما يبدو مواطنًا فرنسيًّا. إلاَّ أن بالإمكان القول إن قطر ليست راضيةً عن أدائنا في مالي! وقد ذهب أبعدُ المعلقين نظرًا بالفعل إلى أن الإرهابيين الذين يُقاتِلون في مالي هم الإرهابيون الذين ساعدناهم في ليبيا، أو نسلحهم وندربهم في سورية. لذا، كما كان من شأن موليير أن يتساءل: ما دورنا في هذه الاشتغالة؟

دعونا نطرح جانبًا الدوافع الحقيقية والجدية التي من شأنها أن تتمثل في المال والمواد الخام وصدام الحضارات الذي يجمع شمل رجال الأعمال والأمراء والمهرجين – المفوَّضين السياسييِّن في كل هذا العالم الشجاع الجديد.

 في سورية، من شأن البعض أن يحلموا بخط أنابيب جديد يبتعد عن أعداء أصبحوا الآن كلاسيكيين كروسيا، المورِّدِ المنطقي الذي يمدنا بالغاز، وإيران (التي لم يقصفها أوباما بعد، ولماذا؟). وفي ليبيا، حلم آخرون بشركات نفطٍ مُخَصخَصة. وفي مالي، بحسب الباحث كريستوفر بولين، مناجمُ الذهب المشتهاة التي هي ملكٌ لروتشيلد الذي لا سبيل إلى التهرب منه، والحكومة الفرنسية الخدوم عليها أن تدافع عنها باجتهادٍ ضد نهابين لا يَرحَمون. إلاَّ أن في مالي يورانيومَ أيضًا. وهذه المرة يؤكد المعلق الشهير تييري ميسان أن الحكومة الفرنسية وجنودها العالميين إنما يدافعون أساسًا عن مصالح آرييفا، العملاق النووي الفرنسي الآخذ في التداعي والانهيار. ويرى السيد ميسان أن مما يُسعد الحكومة الفرنسية أيضًا تدمير جمهورية الجزائر، وربما تقويض المصالح الصينية في إفريقيا (هل حكومتنا على هذه الدرجة من القوة؟). يعتقد آخرون أن حكومتنا »الاشتراكية – الإمبريالية«، إذا استخدمنا مصطلحاتٍ لينينية، كانت بحاجةٍ إلى ترقيص الكلب، كما في فيلم هوليوودي جيد؟ وإلى شن حرب إلهاءٍ كي تُحَوِّلَ أنظار الرأي العام عن المشاكل الداخلية المتزايدة، وعن الآثار الجانبية للاحتجاجات المناهِضة لزواج المثليين؟

لكنني أعتقد أن كل هؤلاء المعلقين الطيبين جَانَبَهم الصواب: فرنسا ليست بحاجة إلى أن تكون طائرة أوباما المقاتلة، فرنسا لا تخوض الحرب لأجل قطر. بل إن فرنسا لا تريد النفط ولا الغاز ولا اليورانيوم. فرنسا ليست حاذقة إلى هذا الحد لكي تقاتل من أجل ذلك. فرنسا، كبوش الابن والمفتش كلوزو، تريد محاربة الإرهاب. في أفغانستان، في سورية، في ليبيا، في مالي، نحارب الإرهاب! هذا هو ما يقوله وزير خارجيتها المهيب، وأنا أزعم أن علينا الإصغاء إليه متواضعين، وأن نفهم دوافعه العميقة.

ما الإرهاب؟ إنه مجرد كلمة تُحدِثُ الرعب، ويمكن لهذه الكلمة المرعبة أن تتسبب منذ انتهاء الحرب الباردة في أي نوعٍ من الحروب، حتى لو كان أكثرها عبثيةً وبشاعة. لقد عاش الناس في وقت من الأوقات خائفين من الشيطان، وغوغاء ما بعد – المسيحية يحيون في الخوف من الإرهابيين الذين يلدهم الحاسوب، وهو خوفٌ قامت بتصديره الميديا. ونحن نحارب الإرهابيين في كل مكان، ومهما كانت التكاليف. هذا كل ما في الأمر! ذات مرة قال الكاتب العظيم سيلين: إن الجنس اللاتيني قد تم تخديره بالكلمات. إنه يعتقد أن العالم كلمة. وهذا القول المأثور هو القول المشروع أكثر من سواه من الأقوال المأثورة. الكلمة تصبح عالماً. فكروا في استخدام كلمة كالتلوث أو الديموقراطية أو العنصرية.

الحرب الفرنسية المتكررة بشكل كوميدي هي بالطبع حرب يخوضها الأخيار ضد الأشرار.

لكن الوقت قد حان لتشغيل آلة الزمن في اتجاه الماضي. لأن هذه المصطلحات هي مصطلحاتٌ إمبراطوريةٌ بشكلٍ نموذجي، وها قد عدنا إلى الأزمنة الإمبراطورية! إن نهاية التاريخ، إذا ما استخدمنا لغةً ماركسية، هي التكرار الساخر لكثير من كوابيسنا المنسية. والأجندة الفرنسية الجديدة تعمل كالأجندة الأخيرة حين زعم سياسيونا السابقون، وكلهم يساريون بالطبع، والذين كانوا منخرطين في فتوحات القرن التاسع عشر، أو مؤخرًا في عمليات التعذيب في الجزائر. إنهم كانوا يقاتلون في سبيل الديموقراطية والتنوير والتسامح ومحبة الإنسانية. ذات مرة صدر تصريح مفضوح عن جول فيري، الذي منح اسمه المهيب لكثير من شوارعنا العظيمة الحزينة والرمادية، قال فيه إن للأجناس الأرقى على الأجناس الوطيئة واجب تمدينها. وهذا هو السبب في أننا مستمرون في قتل كل هؤلاء العرب أو الأفارقة: لخيرهم. ولكن طالعوا ما كتبه حول موضوع الإمبريالية البريئة هذا جون هوبسون، الشارح الإنجليزي الرائع للإمبريالية البريطانية في العصر الفيكتوري:

»تُوجَدُ لدى نسبةٍ ملحوظة، وإن لم تكن كبيرة من أبناء الأمة البريطانية رغبة صادقة في نشر المسيحية بين الوثنيين، للحدِّ من الوحشية ومن المكابدات الأخرى التي يعتقدون أنها موجودة في البلدان الأقل حظًّا من بلدهم، وللقيام بعمل طيب في العالم لصالح الإنسانية«.

ذلك كان الدافع الرئيسي للإمبريالية في نظر هوبسون: ليس الاقتصاد وإنما الأخلاق!

تعتمد جميع الخطابات الإمبريالية على الكلام المعسول والكلام المزدوج والتشويهات اللغوية. إذا قَصَفتَ بغداد أو هيروشيما، فأنت إنسانيّ: إذا لم تُرِد محو طهران، فأنتَ خطرٌ على البشرية، إذا دَمَّرتَ ليبيا مستخدمًا عصاباتٍ فاشية، فأنت تعمل لصالح الديموقراطية وطليعة أمارات الحرية العالمية… وإذا قضت طائراتك التي من دون طيارين على عائلات في باكستان، فهي تُنَظِّفُ العالم، بل تُطَهِّرُه. بهذا الشكل نحفظ السلم في هذا العالم النيو – إنجيلي، الجدير بسِفرِ القضاة.

 

نيكولا بونال

نقلاً عن (مركز الدراسات والأبحاث الماركسية)

العدد 1105 - 01/5/2024