دور حكومة حزب العدالة والتنمية بالأزمة السورية وانعكاساته على الساحة الداخلية التركية

انطلقت حكومة حزب العدالة والتنمية التركية بقيادة رجب طيب أردوغان في دعمها ل (المعارضة السورية في الخارج) من مبدأ طائفي بحت، وتبنّت خطاباً سياسياً ظاهره إنساني وباطنه طائفي مقيت. هذا الخطاب رسَّخ الانطباع في أذهان قطاعات واسعة من الشارع التركي بأن الحكومة السورية حكومة وحشية لا تبالي بحقوق الإنسان، تقوم بقتل مواطنيها في الشوارع دون أي سبب. ومع اندلاع المواجهات المسلحة بين الحكومة السورية والتنظيمات المسلحة التي تدعمها أنقرة وترعاها مباشرة، بدأ الغضب يتصاعد قي صفوف القوميين الأتراك، لأن حكومة حزب العدالة والتنمية التركية بتصرفاتها الخرقاء واندفاعها نحو خطاب يداعب الغرائز الطائفية ولا يرى الأمور إلا من منظور العلاقة الحزبية الضيقة (العلاقة بين حزب العدالة والتنمية والإخوان المسلمين)، لم يستطع التنبؤ أو التوقع باحتمال انتقال الأزمة السورية إلى أراضيها، للتشابه الكبير في المكونات الاجتماعية بين سورية وتركيا.

فقد توقعت تركيا أن الحكومة السورية ستسقط خلال أسابيع معدودة وأن مفتاح عاصمة الياسمين سيُسلم للسلطان العثماني الجديد الذي سيؤذن من جامع بني أمية الكبير بتأسيس الدولة العثمانية الثانية. ولكن صمود الحكومة السورية ومحور المقاومة، الذي تدعمه روسيا الاتحادية والصين الشعبية، أعاد تنظيم أصول ومبادئ لعبة الأمم، ومنح سورية الغطاء السياسي الذي أمن لها الحماية على الساحة الدولية. هذه الحماية الدولية وضعت تركيا في موقف لا تُحسد عليه استراتيجياً، إذ إن عدم تحقيق هدفها الأساسي وهو (إسقاط النظام) في دمشق سيرتد عليها وبالأ مضاعفاً. ذلك أن اللعب بالمكونات الاجتماعية السورية واستخدامها للورقة الطائفية لتسعير النزاع بواسطة بعض مرتزقتها في الداخل (الذين تتقاطع معهم عرقياً)، لن يحرق سورية فقط بل ستمتد نيرانه لتحرق المنطقة بأكملها، وستكون تركيا أول الدول التي ستكتوي بنار الحريق الطائفي الذي تحاول إشعاله في سورية. ذلك أن حكومة حزب العدالة والتنمية التركية نسيت أن مجتمعها غير متجانس دينياً ومذهبياً وحتى قومياً، وأن التداخل السكاني بين البلدين سيجعل النار السورية تحرق البيت التركي، وهذا ما بدأت مؤشراته بالظهور بعد تظاهرات ميدان تقسيم.

ففي الملف القومي، ظنت تركيا أنها تملك القوة والمقدرة لتمنع الأكراد من التحرك ضدها وخصوصاً بعد أن فتحت حكومة أنقرة اتصالات مع حزب العمال الكردستاني اعتقدت بموجبها أنها قادرة على إغلاق الملف الكردي في تركيا إلى الأبد. وهنا كان سوء تقديرها، إذ إن تأثيرات الحدث السوري جعلت الأكراد يتحركون بقوة وعنف إلى درجة أن الهاجس الكردي بات يقض مضاجع المجتمع التركي بأسره، ويفرض على مهندسي السياسة التركية إعادة رسم خطوط العلاقة مع الأكراد إذا أرادوا المحافظة على حدود تركيا الحالية.

أما في الملف السياسي، فقد ظنتّ أنقرة أن عضويتها في حلف الشمال الأطلسي ستمكّنها من فرض سياسات تناسبها متخطية مواقف ومصالح دول إقليمية عدّة. هذا الظن قاد الحكومة التركية إلى عزلة قاتلة رويداً رويداً، إذ إن من كانت الحكومة في أنقرة تعتمد على صداقتهم في سياستها العدوانية على سورية بدؤوا يبتعدون عنها، بعد أن كشفت هذه الحكومة عن القناع العثماني البشع الذي يُنذر في حال نجاح مخططها بإدخال المنطقة في أتون من الحروب لا تنتهي. ومن كانت حكومة أنقرة ترى في عداوتهم منفعة لها لأنها قادرة على سحقهم ومحقهم وإملاء إرادتها عليهم أظهروا من رباطة الجأش والصبر والصمود في ساحات الوغى ما جعل كيد الحكومة التركية يرتد إلى نحرها، وانقلب السحر على الساحر، وتحولت الاستراتيجية السياسية التركية من صفر مشاكل إلى صفر أصدقاء في الداخل والخارج.

فالسياسة الخارجية السليمة يجب أن تكون قائمة على إجماع داخلي، وإن لم تضمن الدولة الحد الأدنى لهذا الإجماع فإنها لا تستطيع الانطلاق في رسم سياسات خارجية سليمة. وما نراه في تركيا أنها لا تستطيع حل مشكلاتها القومية والطائفية الداخلية حتى هذه اللحظة، وهي لا تقوم بأي مبادرة جادة  لتخفيف حدة التوترات الداخلية، الأمر الذي يحرمها من وضع سياسة خارجية سليمة. والثمن الذي ستدفعه تركيا نتيجة هذه السياسات التي أدت إلى قطع أواصر علاقاتها مع الجميع، وخصوصاً بعد أن خسر حلفاؤها من الإخوان المسلمين مواقعهم في مصر واهتزاز صورتهم في تونس وفلسطين، سيكون باهظاً جداً. فالحلم الذي حاول حزب العدالة والتنمية تحقيقه بإعادة رسم الحدود التي وضعتها اتفاقية سايكس – بيكو سيكون كابوساً يقض مضاجع تركيا ويجعل بقاء تركيا ضمن حدودها الحالية موضع تساؤل.

فالثنائي أردوغان – أوغلو صارا متهمين في أوساط تركية كثيرة بأن قنبلة الصراع المذهبي التي نزعا صاعقها ورمياها على الأرض السورية تُمثل خطيئة لا تُغتفر في معجم المصطلحات السياسية التركية، لأن إطلاق العنان للغرائز الطائفية وإحياء الشعور القومي في المناطق الحدودية بين سورية وتركيا عبر السماح للمسلحين القادمين من أصقاع الدنيا الأربعة من رجال القاعدة وكل مريض نفسي بالتمركز في هذه المنطقة الحساسة ( وخصوصاً منطقة لواء الإسكندرون) وممارسة كل أنواع الإجرام والانحراف الأخلاقي، تسبب في إطلاق مشاعر مرتدة طائفية وقومية لدى قطاعات واسعة في المجتمع التركي وإعادة رسم صورة العثماني المجرم في ذهن المواطن السوري خصوصاً، والعربي عموماً، وصلت إلى حد المقاطعة، وخصوصاً بعد التدخل التركي السافر والوقح في الشأن المصري الداخلي بعد أحداث 30 حزيران.

وهذا الأمر حسب بديهيات علم السياسة غباء لا يقدم عليه الغر في هذا المجال، لأن رد الفعل الطائفي والقومي متوقع بديهة في أجواء الاحتكاك المباشر بين المسلحين الذين تمركزوا على جانبي الحدود والمواطنين في سورية وتركيا الذين لا يشاطرون الحكومة التركية والمسلحين نظرتهم للأزمة السورية، والذين يرون في هذه التصرفات استفزازاً لمشاعرهم واستهتاراً بمعتقداتهم واستهزاءً بثقافتهم.

لقد حاول مخططو حزب الحرية والعدالة التركي تقديم أنفسهم، من باب التقية السياسية،  عنباً حلو المذاق للرأي العام العالمي، فكانت سياساتهم حامضاً كالحصرم على قلوب الأتراك وباقي شعوب المنطقة، وكزجاجة نبيذ معتق وُضِعت على طاولة أسياد لعبة الأمم للاستمتاع بطعمها، وهم يحاولون إعادة رسم حدود مناطق النفوذ في الشرق الأوسط بينهم.

العدد 1107 - 22/5/2024