ماركس التجربة السوفييتية «2 من 2»

بعد وفاة لينين المبكرة، عام ،1924 وبعد تسلُّم ستالين لقيادة الاتحاد السوفييتي بفترة وجيزة، جرى التخلّي عن سياسة النيب قبل أن تؤتي أكلها وتتلاشى تلقائياً، وبدلاً عنها جرى تأميم كل وسائل الإنتاج المدينية. وإذا كانت ثورة أكتوبر قد سبق أن أممت المصارف والمصانع والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة، فإن موجة التأميمات الثانية هذه قد طالت ما دونها من المؤسسات الاقتصادية بما فيها الحرف وحوانيت تجارة المفرق الفردية، وهي وحدات صغيرة يصعب حصر عددها الهائل في البلاد.

ترتب على هذا الإجراء الذاتي النتيجتان التاليتان: الأولى – تولي الدولة بنفسها إدارة كل اقتصاد البلاد، كبيره وصغيره، والثانية – لجوء الدولة للوسائل الإدارية المقرونة بالعنف في بعض الأحيان، وبخاصة ضد الكولاك ( أغنياء الفلاحين ) لتشكيل التعاونيات الزراعية في الريف.

وفيما يتعلق بإدارة الدولة بنفسها بدلاً من لجان المنتجين (التسيير الذاتي) للاقتصاد التي كانت سبباً في نشوء البيروقراطية التي كان لها دور حاسم في فشل التجربة السوفييتية، فإن أعداء الاشتراكية خلطوا عمداً بين قضية امتلاك الدولة لوسائل الإنتاج، نيابة عن المجتمع – وهو إجراء لا غنى عنه لبناء الاشتراكية – وبين إدارة الدولة لوسائل الإنتاج هذه، وزعموا أن فشل التجربة السوفييتية مرده إلى مصادرة الملكية الخاصة وتحويلها إلى ملكية عامة، بهدف إضفاء قداسة خاصة على الملكية الخاصة، التي تؤكد أزمات الرأسمالية المتلاحقة، أن لا حل لها إلا بتحويل الملكية الخاصة للرأسماليين إلى ملكية عامة.

لكن تولّي الدولة لإدارة الاقتصاد بدل التسيير الذاتي الذي أبدعته كومونة باريس، وأوصى ماركس بتبنّيه في بناء الاشتراكية، كان يعني تشكيل بيروقراطية لا سابق لها في حجمها وسطوتها في التاريخ، في مهمة فاشلة سلفاً. وهذا ما كان يخشاه ماركس ويحذر منه، حتى بالنسبة إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة لدى تحوّلها إلى الاشتراكية، فما بالك في بلد يسود فيه الإنتاج البضاعي الصغير. كان هذا يعني في التطبيق العملي حلول موظف حكومي محل صاحب الحانوت الفردي الصغير، الذي يستحيل مراقبة كفاءته وأمانته، بينما معالجة ذلك – كما جرى – بإنشاء لجان مراقبة حكومية، كان أشبه بخلق مراتبية بيروقراطية، دون جدوى حقيقية. بل إن هذا الإجراء أرسى الأساس للفساد، الذي راح ينمو ويتفشى بلا انقطاع.

ومع مرور الزمن تكلّست هذه البيروقراطية، وغدت كطبقة جليدية فوق صدر المجتمع السوفييتي، يتفاقم تأثيرها في عرقلة وشل حركته الطبيعية، وأضعفت العلاقة بين القيادة والقاعدة في المجتمع، بحيث كفَّت القيادة عن الإحساس برغبات الشعب وهمومه، وقتلت كل ممارسة حقيقية لمبدأ النقد والنقد الذاتي ولحرية التعبير. وبنتيجة كل ذلك عمّ الشعور في قاعدة المجتمع بالغربة، وحلّت اللامبالاة محل الغيرة على الملكية العامة. وهذا بدا جلياً ساعة انهيار النظام، فلم تتصدَّ لا الطبقة العاملة ولا حتى العضوية الحزبية التي بلغت تسعة عشر مليوناً للدفاع عنه.

أما في ميدان التخطيط الاقتصادي، وهو إضافة إلى الملكية العامة لوسائل الإنتاج، يشكلان أساس الاقتصاد الاشتراكي وأهم عناصر تفوُّق الاشتراكية على الرأسمالية في الميدان الاقتصادي، فإن البيروقراطية السوفييتية راحت، أكثر فأكثر، تجريه بشكل فوقي وبمعزل عن حاجات المجتمع المتنامية والمتطورة، ودون احترام لقوانين الاقتصاد السياسي للاشتراكية. وبنتيجة ذلك نشأت هناك ثلاثة اختلالات راحت تنمو وتكبر، مع مرور الأيام:

 الاختلال الأول: بين فرعَيْ الإنتاج الصناعي أ وب. أي بين إنتاج وسائل الإنتاج وإنتاج وسائل الاستهلاك. وحين انهار الاتحاد السوفييتي كان ينتج من الجرارات الزراعية ضعف ما تنتجه الولايات المتحدة، بينما إنتاج البضائع الاستهلاكية في الاتحاد السوفييتي متخلف تخلفاً ملحوظاً عن إنتاج وسائل الإنتاج فيه.

 الاختلال الثاني: بين حياة المجتمع السوفييتي الثقافية والمادية. في الميدان الثقافي، يمكن القول بأن الاتحاد السوفييتي كان الأول في العالم من حيث رخص أسعار الكتب والأسطوانات وغزارة الترجمات من اللغات الأجنبية، وتوفر المسارح ودور العرض، وغيرها من مقومات الثقافة، بينما لا يترافق الارتفاع المتواصل للثقافة بمستوى مواز في الحياة المادية للمجتمع السوفييتي، بل المزيد من الفوارق. وطبعاً لا يجري الحديث عن تقليد مظاهر البذخ لقطاع محدود في الرأسمالية.

 أما الاختلال الثالث، فهو ما بين القطاع العسكري والقطاع المدني. في الأول، كان الاتحاد السوفييتي في مستوى الولايات المتحدة، بل ومتفوقاً عليها في بعض الميادين.

 وبالمقابل، كان التخلف بادياً ويتزايد في القطاع المدني. وحين انهار الاتحاد السوفييتي، كان ما يزال شائعاً في متاجره العد وتحديد الحساب على الخرزات، وحتى في الأماكن التي جرى فيها، في وقت متأخر، كموسكو، إدخال الحاسبات الآلية البسيطة، كان تأثير العادة أن يدقق المحاسب نتائج الآلة الحاسبة بالعودة إلى الخرزات !

أما المبدأ الثاني الذي صاغه ماركس لمرحلتي الاشتراكية والشيوعية في التقييم لقوة العمل فكان كالتالي: في الاشتراكية أو المرحلة الدنيا من الشيوعية، من كل حسب مقدرته ولكل حسب عمله. هذا المبدأ قائم على تقييم قيمة العمل وفق قانون القيمة الرأسمالي، كما لاحظ إنجلز. لكن ماركس استخلصه من دراسته للاقتصاد السياسي للرأسمالية. فالرأسمالية منذ نشوئها راحت تعاني أزمات فائض الإنتاج. والسبب في ذلك أن العامل في بيعه قوة عمله للرأسمالي ينتج قيمة لا ينال إلاّ مقابل جزء منها، أما الباقي فيقتطعه الرأسمالي – القيمة الزائدة. وما دام العامل  لا يتلقى كامل قيمة ما أنتجه، فإن قدرته الشرائية تظل دون ما طرحه في السوق من السلع، وبالتالي يتراكم فائض الإنتاج وتنشأ أزمات فيض الإنتاج. وللحيلولة دون وقوع هذه الأزمات في الاشتراكية كان لا بد من حصول العامل على أجر مساو لما ينتج، بحيث ترتفع قدراته الشرائية لتوازي ما يطرحه في السوق من السلع. وهكذا يتضح أن ماركس لم يصغ هذا المبدأ طلباً للعدالة الاجتماعية، بل إن هذه العدالة تتحقق كنتيجة وليست هي السبب. أما السبب فهو تلافي وقوع أزمات فائض الإنتاج في الاشتراكية، هذه الأزمات التي ترافق الرأسمالية من المهد إلى اللحد. تماماً كما كان استنتاجه بحتمية حلول الملكية العامة لوسائل الإنتاج مكان الملكية الخاصة، لم يكن سببه تحقيق العدالة الاجتماعية، بل إن هذه العدالة تتحقق كنتيجة. أما السبب فهو أن الملكية الخاصة تغدو منذ أن يصبح طابع العمل اجتماعياً- نتيجة التصنيع الآلي – وليس فردياً أو شبه فردي، فإنه يحتاج إلى علاقات اجتماعية مماثلة. أي ملكية عامة، حتى يواصل تطوره بلا عوائق.

أما في الشيوعية – أو المرحلة العليا منها- فيسود مبدأ من كل حسب مقدرته ولكل حسب حاجته، استناداً إلى تكنولوجيا رفيعة وإنتاج مادي غزير، مقرون بمستوى رفيع من الثقافة الاجتماعية التي لا تعرف الأثرة.

مع مرور الزمن وتطور الاقتصاد السوفييتي، كان يتفاقم خرق وتجاهل البيروقراطية السوفييتية لمبدأ: من كل حسب مقدرته ولكل حسب عمله، البالغ الأهمية في تحريك الحوافز في الإنتاج. وساد بدلاً منه نوع من مساواة الأجور. وقد نتج عن ذلك، إضافة إلى إقصاء العامل عن المشاركة في عمليات التخطيط وإدارة العملية الإنتاجية، الشعور بالاغتراب، وما أسفر عنه ذلك من الترهل وتفاقم الإهدار للخامات واللامبالاة تجاه الملكية العامة. وغدا المعيار السائد هو معيار الكسول وليس العكس، إذ ما جدوى النشاط إذا كان المردود متساوياً مع الكسل! ومن المفارقات الناجمة عن قتل هذا الحافز المادي، أن أصبحت إنتاجية العمل في الرأسمالية، على الآلة نفسها، أعلى منها في الاتحاد السوفييتي، مع أن المفروض هو العكس، وإذا كان الاتحاد السوفييتي ينتج من الجرارات الزراعية ضعف ما تنتجه الولايات المتحدة – كما أشير سابقاً – فإن إنتاجية العمل في الزراعة بقيت في الولايات المتحدة أعلى منها في الزراعة السوفييتية على نحو ملحوظ.

كانت الحصيلة العامة لتجاهل القوانين الأساسية للاشتراكية وللاقتصاد السياسي الاشتراكي، أن حلّت الرغبات الذاتية للقادة السوفييت، أكثر فأكثر، محل تلك القوانين. فقد أعلن بريجنيف، في المؤتمر السادس والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، وذلك قبيل وفاته عام ،1982 أن الاتحاد السوفييتي قد أنجز بناء الاشتراكية المتطورة، وأنه يدخل مرحلة بناء الشيوعية ! في وقت كانت طوابير المواطنين الطويلة لا تزال ظاهرة شائعة للحصول على بعض السلع الأساسية.

وفي لحظة معينة من تراكم هذه التجاوزات، حانت ساعة (انتقام) القوانين الموضوعية التي طال وتفاقم تجاهلها، وبدأ تباطؤ النمو الاقتصادي في الاتحاد السوفييتي، منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي. ثم دخل مرحلة الركود. وراح قادته في التفتيش عن حلول براغماتية لهذه الأزمة. وكان هذا مؤشراً واضحاً بأنهم قطعوا علاقتهم بالاشتراكية والمشروع الاشتراكي. وحين انهار النظام السوفييتي، ذهب بعض هؤلاء القادة إلى حد الإعلان عن عدائهم السافر للاشتراكية، كغورباتشوف وياكوفليف ويلتسين وشيفرنادزه. وتحوّل آخرون من رموز البيروقراطية السوفييتية إلى قادة مافيات لنهب ثروات الاتحاد السوفييتي.

ومستقبلاً، سيكون على بناة الاشتراكية، لا استخلاص الدروس الأساسية من التجربة السوفييتية الحافلة وتقييم ماركس، من قبلها لتجربة كومونة باريس القصيرة فقط، بل والعودة إلى المبادئ العامة والملاحظات البالغة الغنى التي صاغها ماركس حول بناء الاشتراكية.

العدد 1107 - 22/5/2024