«فضائل السقف القديم»

Normal
0

false
false
false

EN-US
X-NONE
AR-SA

MicrosoftInternetExplorer4

/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:”Table Normal”;
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-priority:99;
mso-style-qformat:yes;
mso-style-parent:””;
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin:0cm;
mso-para-margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:11.0pt;
font-family:”Calibri”,”sans-serif”;
mso-ascii-font-family:Calibri;
mso-ascii-theme-font:minor-latin;
mso-fareast-font-family:”Times New Roman”;
mso-fareast-theme-font:minor-fareast;
mso-hansi-font-family:Calibri;
mso-hansi-theme-font:minor-latin;
mso-bidi-font-family:Arial;
mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}

 عاد جدّي من المسجد بعد صلاة العشاء يحمل صحناً من الحلوى التي نحب، ونادانا لينال كل واحد منا نصيبه، كان يبتسم ويحرك رأسه يمنة ويسرة وكأنه يعاتب نفسه، أو يسخر منها، وقبل أن يجلس على أريكته المفضّلة، قال دون مقدمات:

 أريدكم أن تسمعوا حكاية حدثني بها صديق قديم، وما جرى معي اليوم ذكرني بها.

نظرنا في وجوه بعضنا بدهشة واستغراب، إذ لم نتعوّد من جدي أن يتحدث إلينا قبل أن يسترخي تماماً في مقعده، لكننا تحلقنا حوله نستمع بانتباه.. قال:

 يحكى أن رجلاً التقى بصديق قديم له، وبعد السلام والعناق والكلام أقسم عليه أن يزوره في بيته ليقوم بواجبه ويتناول معه طعام العشاء، وما كان من الصديق إلا أن لبّى الدعوة.. وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث واستعادا ذكريات الصبا والشقاوة، نقرت زوجة صاحب الدعوة على الباب تستأذن الدخول وهي تحمل طبقاً عليه أصناف من الطعام عشاء للضيف العزيز.

في اللحظة نفسها لاحظ زوجها (الغيور) انحسار الغطاء عن رأسها قليلاً لتظهر خصلة من شعرها، وفي حركة ذكيّة أراد أن يبعد نظر الضيف عن رؤية شعر زوجته، ويجد فرصة ينبهها لتعتني بوضع الغطاء على رأسها بشكل جيد، فقال لضيفه:

 انظر إلى سقف الغرفة يا صديقي، ألا ترى معي ضرورة تجديده.!؟

وبينما رفع الضيف رأسه لينظر إلى السقف، سارع الزوج بلكز زوجته بعصا كانت قريبة منه كي تنتبه وتصلح وضع الغطاء على رأسها، لكن يبدو أن اللكزة كانت قوية إذ أوقعتها أرضاً، لينكشف شعر رأسها كاملاً بعد أن سقط الغطاء كله عنه، ولم يعد من الممكن إبعاد نظر الضيف عن المشهد كاملاً.. لكن الضيف في محاولة لامتصاص الموقف المحرج، قال وهو يعاود النظر إلى السقف:

 يا صديقي لو أنك أبقيت على السقف القديم كان أفضل.!

سكت جدي، ثم أطلق ضحكة خفيفة وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة. ثم توجّه إلى مكانه المفضل، أخرج سبحته الزيتونية وضمنا إليه بكثير من الحب.

نظر في وجوهنا طويلاً ثم قال:

 رتل طويل من العمال الفقراء، وأكثرهم من الغرباء الوافدين من الأقطار العربية المجاورة، يمرّون من أمام دكاني في كل صباح في طريقهم إلى العمل في ورشات الطرقات العامّة، أو في أسواق عكا، منهم الحمّالون، ومنهم أصحاب المهن البسيطة والمتواضعة، ومنهم المنخرطون في أعمال البناء من نجارين وبنائين وحدادين.

في ذلك اليوم، وكان جدي قد فرغ من فتح الدكان، وتوضيب البضائع وعرضها، واعتنى بعرض كيس كبير من السكر الناصع البياض، ما إن مرّ أول العمّال من الأرتال الطويلة من أمام الدكان، وجدي يجلس على كرسيه المريح يتابع الغادين والرائحين في السوق، حتى لفت انتباه الرجل العامل كيس السكر الأبيض الناصع المفتوح، سرعان ما بلّ إصبعه بريقه وغمّسه في كيس السكر، وتذوقه بتلذذ.

كان جدي يراقبه بتوجس وقد أدرك أنه إذا فعل كل العمّال ما فعل الرجل الأول وتذوّقوا السكر فسيخسر الكثير، وقد ارتبك ارتباكاً كبيراً وحار فيما يفعل لينقذ كيس السكر من أصابع النهمين، وسرعان ما خطرت في رأسه فكرة باشر بتنفيذها على الفور، فقد تقدم عامل آخر وغمّس إصبعه المبلول بريقه في كيس السكر وقربّه من فمه وهو ينظر إلى جديّ الذي لم يتردد في تغيير ملامح وجهه مبدياً امتعاضاً وهو يحرك رأسه يميناً ويساراً بتأسّف، في اللحظة نفسها تغيرت ملامح العامل الفائز بتذوق السكر، فقد أصفرّ وجهه، وتبدّلت ملامحه، وراح يبصق بكثافة ليتخلّص من طعم ذلك الشيء الغريب الذي تذوّقه، وما لبت أن بدأ يتقيأ ويتلوى من الألم.

تجمّع العمّال والناس الكثر حوله، وكل واحد يبدي رأياً، وعندما أشار الرجل المصاب إلى جدي وإلى كيس السكر بدأت الأصوات ترتفع وتعلن أن شيئاً غريباً قد يكون سمّاً هو الذي في الكيس وليس السكر كما يبدو.

أسقط بيد جدّي، فالتهمة التي بدت أمامه واضحة المعالم أكبر من رغبته في إنقاذ كيس السكر من أصابع المتذوّقين، سرعان ما انتصب واقفاً وسط الجموع، ليقسم بأغلظ الأيمان أن ذلك الأبيض الناصع في الكيس هو سكر، ولا شيء غير السكر.

وحتى يعمل على إقناع الغاضبين أخرج حفنة من السكر بقبضة يده، والتهمها.

هدأ غضب الناس، وراح كل واحد منهم يتناول قبضة من كيس السكر ويتذوقها ليتيقّن من أنه سكر ولا شيء غير السكر.

بعد قليل، عاد جدي خائباً إلى كرسيّة المريح، يراقب مهالك السكر في أفواه الناس، ويتمنى لو ترك الرتل الطويل يتعامل كما بدأ أولهم بتذوّق القليل من السكر الذي يعلق على أصابع مبلولة، بدلاً من أن يخسر كمية أكبر بمساعي الناس للتأكد من أن السكر سكر ولا شيء غير السكر.

ابتعد الرتل، بعد أن التهم المتذوقون أكثر من نصف كيس السكر.

ابتسم جدي بحبور وهو يمسح على لحيته البيضاء الفضيّة، وهو يقول بأنه تعلّم من نفسه درساً لن ينساه، فلو أنه ترك الأمر يسير على عواهنه الأولى لكان مرّ بخير وبأقل الخسائر، أما وقد افتعل حركة تصوّرها حركة ذكاء لإنقاذ كيس السكر فقد كلّفته الكثير.

كنا نستمع بانتباه شديد ونتابع حكاية جدّي، وما إن أمسك بسبحته الزيتونية تعلن لنا كما العادة نهاية القصة حتى انفجرنا ضاحكين.

لكن جدي نظر إلينا طويلاً وهو يبتسم، وقال:

 لقد حان وقت النوم فهيا إلى فراشكم.

ثم أردف بكثير من الندم:

 ليتني أبقيت على السقف القديم.. فالحكمة في كثير من المواقف أفضل من الذكاء.

 

 

 

العدد 1107 - 22/5/2024