بين القول والفعل

كثيراً ما نقول، وقليلاً ما نفعل. وإن فعلنا بعد كثير من القول يأتِ فعلنا أقلّ مقدرة على التأثير، أو هو في حدّه الأدنى (الحدّ المؤثّر). ليست هذه مقدّمة تشاؤمية، بل هي حالة توصيف للواقع بعد محاولة لرؤية الساحات من أطرافها التي نستطيع رؤيتها. وإن كانت قليلة فهذا يكرّس تلك المقدمة، إيماناً باليقين أن سلامة الرؤية هي من شدّة الوضوح. فحين لا تكون واضحة ينبغي أن نعمل على إيضاحها، لا أن نكتفي بالقول بأنها غير واضحة، أو فيها شيء من الغموض، وكثيراً ما نقول ذلك، وقلما نعمل للإيضاح.

كثيراً ما نعتب على الآخر، وربما يصل عتبنا إلى حدّ الاتهام بالتقصير أو بالتكاسل، هذا إذا كانت النوايا صافية، أما إن لم تكن كذلك فقد يصل الاتهام إلى حدّ الفساد أو الخيانة. نكتفي بالعتب والانسحاب بعد إلصاق التهم بغيرنا ممن يعملون، كل ذلك من دون أن يكون لكلامنا أي ترجمة على أرض الواقع. نتهرّب ونقول إن غيرنا لا يسمح لنا بأي فعل، وكأن ذلك الغير احتكر القيام بالأفعال له وللمقربين منه. وبقليل من التفكير الهادئ نقترب من حقيقة الأمور، ونكتشف أن غيرنا يقوم بالأفعال لأننا لم نحاول فعلها، وربما يعفينا ذلك من مسؤولية الأخطاء التي تقع أثناء العمل. وأكثر من ذلك، فتنحّينا عن الأفعال يتيح لنا فرصة اتهام الآخرين بأخطاء نضخمها كما نشاء، ونطلق أحكامنا على مرتكبيها كما نشاء، بدءاً من التقصير وانتهاء بالشيطنة.

هي ثقافة القول فقط، وتبقى ثقافة الفعل مركونة على الهامش إلى حين تسمح الظروف بممارستها، حينذاك نستخدمها كخنجر في ظهور الآخرين، متناسين أن أولئك الآخرين يعملون عنهم وعنا. وإن كان المركب لا يزال قادراً على الإبحار فذلك بسببهم، وبفعلهم الذي ننتقده كلما سنحت الفرصة لذلك، عارضين (بالقول) مقدراتنا على تسهيل الصعوبات، والإخراج السلس من الأزمات مهما اشتدّت. كل ذلك من دون أن نقترح أو ننصح أو نساعد، وكأن الأمر لا يهمنا في شيء. ثقافة القول فقط أكثر سلبية، وأشدّ أذىً من ارتكاب الأخطاء عند الذين يعملون، فهل استبدال هذه الثقافة بثقافة الفعل الجريء والإيجابي يحتاج كل هذا التسفيه والتسخيف بعمل الآخر؟ تسفيه يجعل من هم ليسوا على اطلاع بمجريات الأمور يشاركوننا اتهام الآخرين وشيطنتهم.

 من نافل القول إن الوطن يحتاج إلى أبنائه جميعاً، كل على حسب مقدرته ومدى وعيه. وحين ننتقد نمثّل معارضة، لكننا حين ننتقد بإيجابية، وبمسؤولية وطنية نكون معارضين وطنيين، وهل يحقّ لأية معارضة أن تدّعي الوطنية ثم تقف متفرّجة على وطنها وهو يسير في طريق الانهيار؟ أين روح الوطنية والمسؤولية في ذلك؟ المعارضة التي تقف موقف المتفرج على الفساد وهو يستشري في جسد الوطن لا تختلف بشيء عن الذين يقومون بالفساد والإفساد. وكل كلمة لا تترجم إلى فعل تفقد قيمتها. هذا في المنظور العام، أما الحقيقة فهي أكثر من فعل سلبي ومخرّب، لأن تلك الكلمة حصيلة مراقبة، ورؤية صحيحة في الغالب، وإن حرمان الوطن من هذه الحصيلة التراكمية للمراقبة والتصويب هو الخطأ القاتل، الذي يصعب إصلاحه، فقد تعرّش على مدى أعوام طويلة، وتحصن خلف جدران الصمت غير البريء.

ولأنه (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) فعلى الذين يعتقدون أن في كلامهم وأفكارهم فائدة ترجى أن يبادروا إلى ممارسة وطنيتهم التي يدّعون على الوجه الأمثل، أو أن يكفّوا عن اتهام الآخرين بما ليس فيهم، وذلك أضعف الإيمان. ولكي نبعد النظرة التشاؤمية علينا أن نتفاءل، وأن نثق بالروح الوطنية عند من يعملون، وأن نطرح أفكارنا بجرأة ومسؤولية، وألا نسمح لأحد /مهما كان هذا الأحد/ أن يصادر حقنا في خدمة وطننا، هذا إذا كانت غايتنا بالفعل خدمة الوطن، وإلاّ فلسنا معارضين، ولسنا وطنيين.

العدد 1105 - 01/5/2024