أضواء على إمبريالية القرن 21

إمبريالية القرن الحادي والعشرين لها ميزاتها الخاصة، فإضافةً إلى نماذجها القديمة من الاستغلال، اكتسبت ملامح جديدة نسبياً على طريق هذا الاستغلال منها: نشوء وتقوية طبقة حاكمة عالمية، مركزية القوة العسكرية، الإجرام العالي المستوى والطويل الأمد، التركيز على طبقات محلية عميلة ونُخب سياسية محددة للإبقاء على هيمنة الإمبراطورية الأمريكية الأوربية.

إن أية مناقشة لوضع الإمبريالية في القرن الحادي والعشرين، من حيث نموها الديناميكي وضعفها تتطلب تحليلاً لبعض الظواهر الأساسية منها:

1- الأشكال الجديدة للنهب الإمبريالي لمجتمعات واقتصادات بأسرها، بواسطة الديون والشبكات المالية المتخصصة.

2- الدور الرئيسي للإجرام المنظم في تراكم الرأسمال الإمبريالي العالمي.

3- نماذج وأشكال الحكام والطبقات العميلة ودورها في حماية المصالح الإمبريالية.

أولاً – النهب الإمبريالي للدول المدينة في أوربا:

لقد حدث أكبر انتقال للثروة من العمال والموظفين إلى البنوك الإمبريالية وخزائن الدول في أوربا وأمريكا الشمالية واليابان عبر ما يعرف ب(أزمة الديون)، وبغية الحصول على أكبر قدر ممكن من الأموال من الخزائن العامة للدول المدينة، قُلصت النفقات الاجتماعية تقليصاً كبيراً، كما خفضت الرواتب، وطُرد العديد من موظفي القطاع العام من وظائفهم، وكان التعاون بين الطبقة السياسية الحاكمة ونخبها المحلية المالية وثيقاً وأساسياً في تسهيل النهب الواسع والطويل الأمد للاقتصاد المحلي. وعلى هذا الأساس أصبحت كل من اليونان وإيرلندا وإسبانيا والبرتغال أكبر مضخة لإغناء الإمبريالية في التاريخ الحديث، وأُفقرت الجماهير العاملة بأكملها على الأقل للجيل القادم وما بعده.

وهكذا فإن اليد العاملة الرخيصة والضرائب التنازلية والأسواق المفتوحة والخزان الهائل من العاطلين عن العمل، هي النتائج المباشرة للإملاءات المالية الإمبريالية التي فُرضت بالقوة، واستكملت بدعم من الطبقات السياسية المحلية العميلة، وتم تعزيزها بواسطة جيش مدجج من خبراء الإعلام ومن الاقتصاديين الأكاديميين ومن بيروقراطيي نقابات العمال.

ثانياً – الإجرام المنظم كمرحلة أعلى من الإمبريالية:

وصف لينين في عصره الرأسمال المالي الاحتكاري بأنه أعلى مراحل الإمبريالية، وقد برزت منذ ذلك العصر حالة جديدة أكثر خبثاً هي الجريمة المنظمة الشاملة التي أصبحت أساس الاستغلال والتراكم الإمبريالي. ويتضح تراكم الرأسمال عن طريق الجريمة، خاصة في القطاع المالي العالمي المسيطر بثلاثة أشكال:

1- احتيالات بتريليونات الدولارات من قبل جميع البنوك الرئيسية تتضمن التلاعب بمعدلات الفائدة بين البنوك، والتضخيم والإغراق المتعمدين للأسهم والسندات، والاستيلاء على أموال صناديق التقاعد ونهب ملايين المستثمرين.

ولأكثر من عقدين من الزمن، انخرط النظام المالي بأكمله بعمليات احتيال ممنهجة واختلاس للأموال العامة، اعتماداً على تقارير أرباح وائتمانات مزورة، مراكماً رأسمالاً كبيراً يعاد استثماره في احتيالات أكبر على مستوى العالم.

2- إضافة إلى النصب والاحتيال، هناك مئات مليارات الدولارات والتي تحصلها البنوك الكبيرة عبر عمليات غسيل الأموال غير المشروعة لكارتلات تجار المخدرات وتجار الجنس وتجار الأعضاء البشرية والمتهرين من دفع الضرائب في القارات الخمس.

3- تتم زيادة أرباح الرأسمال الإمبريالي ومجمل ثروته بواسطة التدفقات الضخمة وغير الشرعية للرأسمال المالي من البلدان النامية. وعلى سبيل المثال بين عامي 2001 و2010 خسرت البلدان النامية 86,5 تريليونات دولار سُربت بشكل غير مشروع، هذا إضافة إلى ما أرسله مليارديرات المصانع في الصين وأساطين المال المكسيكيون والنخب النيجيرية الفاسدة وحكام الهند الأغنياء القدامى والجدد من أموال هائلة إلى البنوك الأمريكية والغربية وبعض البنوك في الشرق الأوسط؟

ثالثاً- الدور المركزي للعملاء والحكام المحلّيين في خدمة المصالح الإمبريالية:

تعتمد الإمبريالية المعاصرة على شبكة معقدة من العملاء في الخارج: سياسيين وعسكريين يلعبون دوراً هاماً في تسهيل عمليات الدخول والاستغلال الإمبريالي في بلدانهم، وفي الاستيلاء على الثروات وتهريبها إلى الخارج.. فقد أقامت الولايات المتحدة مع قوى الناتو قواعد عسكرية في العالم، وأنشأت صناديق تمويل خاصة لتشكيل جيوش مرتزقة إفريقية للتغلب على المعادين للإمبريالية. وأنشأت أنظمة عميلة لها تحمي مصالحها، وذلك في كل من إثيوبيا وأوغندا وكينيا ونيجيريا ومالي وليبيا وأماكن أخرى. فبعد تدخل الناتو في ليبيا (أكثر من 26000 غارة)، جنّد الناتو جيشاً من المرتزقة لحماية المنشآت النفطية والإعداد لخصخصة المؤسسات العامة. فرنسا أقامت نظاماً عميلاً لها في مالي طمعاً باليورانيوم والذهب. في آسيا، في أفغانستان والعراق وكردستان، يحاول الإمبرياليون تأسيس جيوش من المرتزقة تحمي الأنظمة العميلة لهم وتسهل لهم نهب الثروات  النفطية وغيرها. في أوربا تعتمد المؤسسات المالية الإمبريالية على عملاء سياسيين في الداخل لفرض ما يسمى (برامج تقشف) ولتحمل الديون المالية الخاصة، ولنقل الأموال إلى البنوك الكبرى دائماً، ذلك أن مثل هذه الأنظمة العميلة ترى فيها الإمبريالية ضرورة لحماية أجندتها.

الصعود الصيني

وفي حين انحدار الإمبراطورية الاقتصادية الأمريكية والأوربية، تصعد القوة الاقتصادية الصينية العالمية، لأن تمدد الصين على مستوى العالم هو أساساً تمدد اقتصادي استثماري في المواد الخام، ومشاريع على نطاق واسع لإنشاء البنى التحتية، وتقديم حوافز مالية وقروض منخفضة الفائدة، بينما شددت الإمبريالية الأمريكية – الأوربية على التدخل العسكري والقيام بغارات بطائرات من دون طيار في الباكستان وأفغانستان واليمن والصومال، والاحتلالات العسكرية، ولكن بكلفة اقتصادية عالية، ما أدى إلى عجز مالي وتجاري مستمر وإلى خسائر بمئات المليارات من الدولارات.

أمر لافت

ومما يلفت النظر هو خضوع القوة الإمبريالية الأمريكية لدولة صغيرة غير مهمة اقتصادياً ومعزولة سياسياً كإسرائيل، وتولّي المواطنين الأمريكيين الموالين لإسرائيل مناصب استراتيجية صانعة للسياسة الخارجية في البيت الأبيض والبنتاغون والكونغرس ووزارة الخارجية.

وعلى سبيل المثال يمول الرؤساء ال52 للمنظمات الأمريكية اليهودية أعضاء الهيئات التشريعية والأحزاب والحملات الانتخابية بملايين الدولارات مع الضغط لتعيين الموالين للصهيونية في المناصب الحساسة.

وفي هذا السياق جرّ صانعو السياسة الصهيونية الولايات المتحدة إلى الحرب على العراق، وورطوها في حروب ضد العرب والمسلمين هنا وهناك.

لم يحدث في تاريخ الإمبريالية المعاصرة أن خضعت السياسة الخارجية لدولة صغيرة مثل إسرائيل وتنفيذ أجندتها ومخططاتها!

إن إمبريالية القرن الحادي والعشرين تستند بمصرفييها النافذين وأسلحتها المتطورة ومئات القواعد العسكرية والإنفاق الهائل إلى أسس هشة، فمن يصدق الآن أن (الحرب على الإرهاب) قد حلت محل (الحرب الطبقية)؟!

إن الغالبية العظمى من الشعوب تدرك أن (وول ستريت ولندن وبروكسل) هم المجرمون الحقيقيون الذين ينهبون المليارات ويغسلون الأموال غير المشروعة ويسرقون خزائن الدول، وبالتالي فإن الصراع ضد الإمبريالية هو أولاً وقبل كل شيء صراع طبقي، وأن الانتقال إلى الاشتراكية لايزال ممكناً، بل ضرورياً.

العدد 1105 - 01/5/2024