في تداعيات «قانون يهودية الدولة» (1من2)

تعود مرحلة المخاض الأولى لولادة الفكر الصهيوني التي أدت إلى ولادة ما سمي بالحل الصهيوني (للمسألة اليهودية) إلى فشل حركة التنوير اليهودية (الهكسالاه)، التي انتشرت في أوربا، (1750-1880) (1)، ويتلخص جوهرها في الدعوة إلى اندماج الجماعات اليهودية في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها والتمرد على الجيتو والخروج من العزلة، وقد عبر عن هذا التوجه التنويري، الشاعر اليهودي (يهودا ليف جوردن) (1830-1892) (2)، بمقولته الشهيرة: (كن يهودياً في بيتك وإنساناً خارج بيتك). وبذلك الفشل سيطر (التيار القومي) الرجعي والأكثر تطرفاً المتمثل في (الحركة الصهيونية) على قيادة الجماعات اليهودية، ولجأ إلى تغذيتها بالأساطير الدينية، واستغلال معاناة اليهود المصطنعة التي نجمت عن عوامل اقتصادية وثقافية واجتماعية رافقت تشكل الدول القومية البرجوازية الأوربية، وتحررها من قيود الكنيسة.

 وقد دعا مؤسس الحركة الصهيونية (هرتزل) في كتابه (الدولة اليهودية) الذي صدر عام 1896 إلى إقامة الدولة اليهودية في فلسطين قائلاً: (يجب أن نقيم هناك جزءاً من حائط لحماية أوربا في آسيا يكون عبارة عن حصن منيع للحضارة في وجه الهمجية)، وجاء في البرنامج الذي قدمه هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897 (إن غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون..) (3). استغلت الحركة الصهيونية الواقع الشاذ للجماعات اليهودية، وطرحت نفسها حركة تحرير يهودية ومنقذة لهم، وعملت على تأجيج مشاعر الولاء (القومي) لليهود، وعلى إذكاء مشاعر الخوف لديهم من الشتات، واستغلت مفهوم (العداء للسامية) الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوربا الغربية لإثارة اليهود ودفعهم للهجرة إلى فلسطين، وقد عمل روادها على تشجيع الحكومات الأوربية على تهجير اليهود بكل الوسائل، فقد صور هرتزل في مراسلاته مع الملوك والحكام الأوربيين (أن بقاء اليهود داخل المجتمعات التي يحكمونها ليس في صالح هذه المجتمعات وحكامها، ولهذا يجب على هذه الحكومات تشجيع فكرة الصهيونية لإنشاء الوطن القومي اليهودي حتى تتخلص هذه الحكومات من العناصر المناهضة لها… وأن على الدول الكبرى العمل على مساعدة اليهود في التخلص من العداء للسامية… عن طريق إنشاء دولة يتم تهجير اليهود إليها، فيتحقق لهذه الدول الخلاص من العنصر اليهودي وتنتهي بذلك ظاهرة معاداة السامية…)(4).

 وارتباطاً بهذه الثقافة أكد قادة الكيان الصهيوني مركزية البعد الديني (لإسرائيل) بهدف جعل اليهود أمة قومية لها طابعها المميز والخاص تجسدها فكرة (الدولة اليهودية النقية)، فقد استحضر بن غوريون أهمية البعد الديني في تكوين (القومية اليهودية) قائلاً: (إن أهم أركان الدين اليهودي هو الارتباط بأرض الميعاد). وقال مناحيم بيغن: (لا يمكن الفصل بين الدين والقومية) في اليهودية، الأمر الذي يعني من بين ما يعنيه إيجاد وتكريس الأرضية الفكرية والأيديولوجية لإقامة وإرساء دولة التمييز العنصري. فالدولة، أي دولة، ليست قائمة على ديانة معينة، فهي دولة لكل مواطنيها دون استثناء.

ومع البدايات الأولى لإعلان قيام الدولة الصهيونية، سُنّ العديد من القوانين العنصرية التي تطول وجود الفلسطيني وحرمانه من العودة إلى دياره الأصلية، كقانون (أملاك الغائبين). وقانون العودة 1952 الذي يسمح لأي يهودي بأن يهاجر ويستوطن في فلسطين المحتلة ويحمل الجنسية الإسرائيلية، في حين يمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين السكان الأصليين إلى ديارهم الأصلية، والقوانين العنصرية الهادفة إلى (تهويد الدولة) مثل (عبرنة اللغة، إلغاء الأسماء العربية للمدن والشوارع الفلسطينية، أداء قسم الولاء لإسرائيل بوصفها (دولة للشعب اليهودي)، دولة يهودية، فرض التدريس الإلزامي للنشيد الإسرائيلي ومنع الاحتفال بذكرى النكبة لفلسطيني المناطق المحتلة (عام 1948)… وقانون مكافحة (الإرهاب) الذي يقضي بسحب بطاقة الإقامة والحقوق الاجتماعية، من أبناء القدس المحتلة، في حال نسب لهم الاحتلال تهماً تتعلق بـ(الإرهاب)، أو (مخالفات خطيرة دافعها وطني، كالتحريض على المسّ بالدولة).، الذي يفرض عقوبات شديدة (من نسف المنازل، والطرد والنفي إلى قطاع غزة)، فقد قال نتنياهو: (لا يحتمل أن يتمتع الذين يعملون بالإرهاب ضد دولة إسرائيل بالحقوق الاجتماعية.

في ظل تقاطع المصالح والأهداف بين الحركة الصهيونية وحركة الاستعمار الأوربية، نجحت الحركة الصهيونية في الحصول على وعد بلفور الشهير عام 1917 رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، الذي يقضي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد شكل هذا الوعد منطلقاً لتهجير (اليهود) إلى فلسطين. وعلى أثر وقوع فلسطين تحت الاحتلال البريطاني عام 1918 وتشريعه بما يسمى (بالانتداب) الذي أقرته عصبة الأمم المتحدة عام 1922 بدأ المشروع الصهيوني يتقدم بخطوات متسارعة على الأرض تحت حماية وحضانة قوات الاحتلال البريطانية، التي قدمت كل ما يلزم لسيطرة العصابات الصهيونية على الأراضي الفلسطينية، متخذة من قرار التقسيم الأممي رقم 181 الذي صدر عام 1947 غطاء سياسياً لحربها العدوانية عام 1948 التي استطاعت أن تحتل 78% من مساحة فلسطين، والتي نجم عنها تشريد ما يقارب 800 ألف مواطن فلسطيني من أراضيهم وأملاكهم وتشتيتهم في بقاع العالم. ومن هنا نشأت القضية الفلسطينية كأحد أوجه التوافق والتقاطع بين مشاريع حركة الاستعمار الأوربية والحركة الصهيونية، فإسرائيل تشكّل التجسيد المادي للأيديولوجيا الدينية والبناء الفكري والثقافي للحركة الصهيونية العنصرية، وتعتبر أيديولوجية الحركة الصهيونية أن الدين والقومية اليهودية شيء واحد، على الرغم من فقدان أية روابط قومية واجتماعية واقتصادية تاريخية ذات صيرورة طبيعية بين الجماعات اليهودية التي تنتمي إلى شعوب وقوميات مختلفة ومتعددة، يقول موسى هس: (إن الدين اليهودي هو المسوّغ الأول لولادة القومية اليهودية)، وفي ذلك تجاوز لحدود الموضوعية التي تتناقض مع هذه الآراء والأفكار التي تفتقد للقدرة على الصمود أمام معطيات الواقع وحقائقه.

العدد 1105 - 01/5/2024