الطبقة المنغلقة والنخب المنغلقة

لفت أوكتافيو باث الشاعر والناقد المكسيكي المعروف، في كتابيه (متاهة العزلة) و(أطفال المستنقع) إلى طبيعة المكسيكيين، وإلى ثنائية التغير والاستقرار، وإلى مفهوم (الطبقة المنغلقة) أو المنبوذة. وقارن بين نظرتي المجتمع الحديث والمجتمع الطبيعي إلى التغير. ورأى أن المجتمع مكون من مجموعة طبقات في حالة حركة، تشكل كلاً ديناميكياً يتحرك ويتغير باستمرار، لكن الهنود الأصليين يعيشون في مجموعات ثابتة لها خصوصيتها، وهي ترى في التغير تهديداً لها ولخصوصيتها الثقافية والاجتماعية.

والطبقة المنغلقة تمارس طقوسها الخاصة، ويصعب تكيفها واندماجها مع محيطها الاجتماعي، وهي ليست وحيدة، (فلدى الهنود الأصليين ثلاثة آلاف مجموعة وصنف من هذه الفئات)، وهي تجد في ثبات طقوسها أصالتها. وأساس استمرار الحياة، وتخشى التغير الذي تنظر إليه الطبقات والفئات الأخرى نظرة مغايرة، بأنه أساس الحياة والتقدم والتحديث والتنمية، بينما تراه الفئة المنغلقة شكلاً من العماء الأصلي.

ويبدو أن المجتمعات الشرقية التي تتعدد فيها البنى الطبقية وعلاقات الإنتاج البدائية والبطريركية والإقطاعية وشبه الرأسمالية، وتتنوع أشكال التبادل بين التوسع حيناً والاضمحلال أحياناً، تنتج أنماطاً من الفئات المنغلقة، ومجموعات من النخب المنغلقة، لا تختلف كثيراً عن الفئات التي وصفها باث.

وتبدي هذه النخب المنغلقة تصورها الخاص عن ذاتها وعن الآخر وعن المجتمع والكون بطريقة طقوسية بعيدة عن الواقع في حركته والدائمة واستقراره الظاهري، وتشكل رؤيتها الثابتة النهائية عن المجتمع و(حاجاته وحقوقه)، بعيداً عن التقصي والبحث المنهجي العلمي، ودون اكتراث بخيارات الطبقات والفئات والنخب الثقافية الأخرى، أو لاستعدادات المجتمع، وقدراته في المشاركة العامة. أو لدرجة وعيه لذاته ولحقوقه. وتدافع النخب المنغلقة عن (قناعاتها الراسخة وتخيلاتها الصائبة) دفاعاً يصل إلى حد عصمة واضعيها، وترى في من يخالف هذه القناعات و(الحقائق اليقينية) عدواً ومتخلفاً وعقبة في طريق (عربة تطورها التاريخي)!.

ولا تملك هذه الأنماط من النخب الثقافية المنغلقة  على تنوعها الظاهري  أي تصور ملموس عن الواقع وحركته وتحولاته وقواه الصاعدة، ولا تلقي بالاً إلى مراحل التطور التاريخي، ولا إلى تطور العلوم ومنها علم السياسة، ولا إلى تبادل التأثير بين العلوم جميعها، ولا إلى مفهوم التراكم بوصفه أساساً لكل نقلة نوعية موزونة. وهي تختزل في مقولاتها مقتطفات من الأدب والأنثربولوجيا والتاريخ والسياسة، وتصوغ تصورات ذهنية أقرب إلى الأحلام الرومانسية، تعدها أسرع طريقة للحقاق بالمدنية الغربية، دون التفات إلى الخصوصية الثقافية والاجتماعية، ومزاج المجتمع المحلي ومستوى تقبله لأطروحاتها.

وحين تصطدم مقولات النخب المنغلقة بجدار الواقع، تبدو المشكلة لديها في الواقع وفي الجماهير لا في بؤس المقولات، ولا في ضعف تجربة واضعيها. ويندر أن تجري مراجعة لهذه المقولات، التي يطنب (واضعوها ومريدوهم) في إطرائها، وحين يعلنون (بتواضع إعلامي) إجراء مراجعة لهذه المقولات، ويدعون الآخرين إلى المشاركة في هذه المراجعة، يلاحظ بوضوح إعادة إنتاج الخطاب الثقافي والسياسي نفسه، وكأن المراجعة قد جرت في الحلقة الضيقة أو (المجموعة المعزولة) نفسها.

ولا يستغرب من المثقف النخبوي أن يمنح رأيه تقديراً عالياً، ولكن علاقته العضوية بالمجتمع وانفتاحه على الآراء الأخرى، وتفاعله الحي مع محيطه، هي التي تبرز دوره وتمنح رأيه التقدير المستحق.

وقد رأى إ.لفيناس أن إنسانية الإنسان تتمثل في اكتراث صاحب الرأي بآخر غيره، وثمة كاشف آخر لبؤس النخبة المنغلقة هو محاولتها الدائبة تغليف أُحاديتها بنظرة لفظية إيجابية إلى التعدد، ومزجها المتعسف باسم التجديد لليبرالية الرومانسية بماركسية فوضوية بعيدة عن أي واقعية تجريبية، أو عن أي تنوير هضم ما سبقه وتمثله، وأخصبه بأفكار جديدة ومراجعات وحوارات نقدية معمقة، وأنتج ذلك كله ثماراً أشد مرارة من الجهل نفسه، على حد تعبير أوكتافيو باث (أطفال المستنفع  ص 197)، ولا يقتصر الأمر على إسبانيا وحدها، بل يشمل شمالي إفريقيا والشرق العربي كله.

إن الاختلاف في الرأي لا يبرر الانغلاق، لأن ملاقاته والتعمق في ثناياه والتفاعل معه، وتمييز ما فيه من جدة واجتهاد وتجربة حية هي عملية إغناء ونشاط عقلي يفتح نوافذ في دائرة الانغلاق المستحكمة، ويفسح في المجال لتلاقح الأفكار، وللتعدد أن يتجلى في الممارسة. وقول فولتير منذ قرنين يرن في الآذان مثل جرس: قد أخالفك الرأي، ولكنني على استعداد لأن أدفع حياتي دفاعاً عن حقك في إبداء رأيك بحرية.

ولا يكفي أن يرفع شعار التعدد مطلباً، وأن توجد النخب الثقافية والسياسية كمجموعات متجاورة، ولا يكفي أن يسمح بالتعدد على أنه حالة انتقال من أحادية باتت موضع نقد، وعائقاً للاستقرار وللتطور، لأن المطلوب ممارسة التعدد وتشجيع هذه الممارسة من جانب الحكومة الديمقراطية والنخب المثقفة العضوية النشيطة. وقد رأى أرنستو ساباتو الروائي والمفكر والشاهد على القرن العشرين، ورئيس لجنة تقصّي الحقائق حول التصفيات الجسدية والمفقودين في مرحلة الديكتاتورية في الأرجنتين أن الحكم الديمقراطي لا يكفي أن يسمح بالتعددية فحسب، وإنما عليه أن يشجعها ويطالب بممارستها، لأن ذلك الحكم بحاجة إلى الحضور الحيوي للمواطنين كافة، كي يتسنى له أن يكون موجوداً. وكلما انعدم هذا الحضور سقط المجتمع في النمطية، التي تستولد الامتثال واللامبالاة والتحجر والجمود، وثمة عدد من الديمقراطيات سقطت في هذا المطب.

وثقافة تشجيع التعدد وممارسته لن تكون داخل مجموعات النخب المنغلقة، أو في المقاهي، بل تكون في تنشيط الفعل الحواري والنقدي في الإعلام والجامعة والندوات الفكرية والبحثية، والورشات والجولات الميدانية التي تستهدف توطين هذه الثقافة وتنشيطها.

 

العدد 1105 - 01/5/2024