ناس وفرّوج وفرجة..!

عندما كانت الزوجة تحار في أمرها وقت إعداد طعام الغداء، كنّا نجد في الفروج ملاذاً آمناً يحمينا من تلك الحيرة. ولم يكن يخطر على البال أبداً أن هذا الذي يدعى الفرّوج سيحلق عالياً إلى درجة أنه يصعب علينا الإمساك به. طبعاً هو بيننا، وتطالعنا محلات بيعه في كثير من متاهات دروبنا. ولكننا نتحاشى النظر إليه لأسباب عديدة، حتى إن البعض بات يهرب من طريق السيارات الشاحنة وهي تنقله من مسقط رأسه في المداجن إلى محلات البيع.

قبيل عدة أيام عرّج أبو إسماعيل عليّ واصطحبني معه لتوقيع ورقة  في مبنى البلدية، ولا أجد نفسي مرغماً على الخوض في تفاصيل ذلك، إذ إن ما شاهدناه في طريقنا إلى هناك هو الأجدر والأحق بأن نقوله وأن نتداوله، فاربطوا أمتعتكم واستعدوا للتحليق معنا في ما سنوجزه عليكم كي تبقى القصة ضمن حدود شروط النشر.

لم يكن يخطر في بالنا أن نلتقي بهذا الحشد من المواطنين من مختلف الأعمار والفئات.. نساء وشيوخ وأطفال حفاة.. شباب وصبايا دون تسريحة شعر أو تصفيفه وقنفذته بواسطة مادة الجيل.. نساء ورجال فوجئوا بالدخان المنبعث من مكان ما من الحارة الغربية.. الجميع يتكوّم ويتدافع تباعاً في مشهد لا يمكن أن يُنسى. الشيء اللافت في الأمر هو الدخان المنبعث من المكان الذي يتقاطر إليه هؤلاء المتدافعون. قلت لصديقي  وقد تسللت إلى أنفي رائحة غريبة:

ما هذه الرائحة؟!. أعتقد أنني شممتها منذ أمدٍ بعيد.

قال وقد توقف إلى الجهة اليمنى من الطريق:

بالفعل.. يا لها من رائحة!. ولكن لماذا يتدافع هؤلاء حول مصدر الدخان؟

لم أجد جواباً، فظننتُ أنه قد يكون هناك توزيع لأسطوانات الغاز أو لمادة المازوت، أو ربما كان الهلال الأحمر يوزع المعونات على السكان.

قال صديقي وقد بدت علامات الدهشة عليه:

أعتقد أنني شممتها من قبل.

هل هي رائحة لمواد كيماوية لا سمح الله؟!

لا لا أبداً.. دعنا من حديث الكيماوي يا رجل؟!

ساد جو من الصمت. أنا وصديقي نفكر في حقيقة الأمر فيما لا يزال التدافع على أشدّه. لكزني صديقي مشيراً إلى الجهة المقابلة للطريق. التفتُّ إلى هناك وإذ ببعض الأولاد يلتهمون الخبز بشكل مثير، فيما يعبرهم الدخان كما تعبر نتف الضباب الجبال وهي هاربة بخجل على أجنحة الريح.

قبل أن يدع صديقي لي فرصة التفكير في جياع العالم وسط هذه الحروب وعمليات الاقتتال في أكثر من بلد، قال وهو يهز رأسه:

لقد وجدتها.. نعم وجدتها.

قلت وقد تملكتني الحيرة والريبة:

ومن هي تلك التي وجدتها؟!

قال وقد قطب حاجبيه:

الرائحة.. إنها رائحة شواء.. نعم هذه رائحة شواء! أنفي لا ينسى روائح كهذه. أعرفها جيداً.

قلت في نفسي دون أن أنظر إليه: عن أي شواء يتحدث هذا؟! أشواء في هذا الزمن الذي صارت اللحمة والفروج حلماً لكل ذي دخل محدود؟!. لا لا.. هذا مستحيل! قد يكون شخص آخر كالذي يدعى أبو عزيزي ذاك التونسي المأفون في عقله الذي أضرم النار بجسده فكانت تلك الحادثة الشرارة الأولى لهذا الحريق الذي التهم وما زال يلتهم البشر والحجر والشجر وكل شيء في طريقه في ما يسمى الوطن العربي!

وعلى وقع هذه الهلوسات تقدمنا باتجاه الجموع محاولين استبيان الواقع الحقيقي على الأرض، وفوجئنا بعدد من الرجال والنساء والصبايا والشباب وهم يلتهمون الخبز وكأنهم جاؤوا من الصومال أو دارفور.

تابعنا تقدّمنا وسط هذه الجموع الغفيرة التي ذكَّرتنا بتلك التي كنا نشاهدها أيام الاحتفالات والخطب الرنانة التي كان البعض يجد فيها وسيلة مهمة من وسائل النفاق للحفاظ على موقعه ومركزه الوظيفي، وإذ بشاب وقد تعرى نصفه العلوي وبيده قطعة كرتون وأمامه نصف فروج.. نعم نصف فروج بالتمام والكمال وحوله زوجته والأولاد ولفيف من أهله وأقاربه وهو يقوم بتحريك اللحم على الجمر فيما ينظر حوله وكأنه كليب، كما تابعناه في مسلسل الزير سالم. حاولت أن أبتسم له علّه يتعرّف عليّ، إذ كان فيما مضى من أصدقائي، وكان بيننا لحم وملح ( عفواً أقصد خبز وملح). لكن الرجل ظلّ يوزّع نظراته على الجميع متجاهلاً ابتساماتي وكأنه يقول لي: لو خرجت من جلدك لم أعرفك، فيما بدأ الهواء يخلخل كيس النايلون الفارغ الذي كان يحوي عدداً من أرغفة الخبز بعد أن التهمها الحضور على الرائحة كما يقولون.

غادرت المكان وأنا أحاول أن أتذكر المرة الأخيرة التي أقمنا فيها حفلة شواء، لكن دون جدوى. فتمنيت لو اصطحبت معي أولادي كي تبقى الرائحة في أنوفهم عدة أسابيع أو عدة أشهر ريثما تكون الأسعار قد عادت إلى سابق عهدها. وعندئذ فقط أستطيع أن أقيم لهم حفلات الشواء بمعدل مرة واحدة في الشهر.. أو دعونا نصارحكم بالحقيقة.. مرة واحدة كل شهر أو شهرين.. احسبوها واسترونا!

العدد 1105 - 01/5/2024