النصف الفارغ

حين نتحدث عن النصف الفارغ من الكأس فنحن نعترف ضمناً بامتلاء النصف الآخر، وإلا كان الحديث مختلفاً، وصار الأمر نوعاً من استبعاد غير مستحبّ، وصار تجاهلاً للحقيقة، الحقيقة القائلة بوجود الآخر، نوع من الديكتاتورية الإلغائية، تخرّب أكثر مما تعمّر، وهو أمر مرفوض عند كل صاحب عقل، فصاحب العقل يسعى إلى الامتلاء ورجحان كفّة الإيجاب على حساب كفة السلب.

ما من معارض وطني في هذا العالم إلا ويقول برجاحة عقله، وهذه قضية أخرى تثبت مصداقيتها حين لا يرى المعارض الكأس كلها فارغة، بمعنى أنه لا يرفض كل ما هو قائم جملة وتفصيلاً، وإنما يعترض على مسار، أو على جملة مسارات بغية تصويبها. وليس بالضرورة أن ما يراه تصويباً هو كذلك، وعليه الاعتراف أيضاً بإمكان خطأ رؤيته، وإلاّ تحوّل إلى عكس ما يقوله، إلى ديكتاتور أشدّ وطأة من ديكتاتورية يزعم وجودها ويسعى لإزاحتها، والحلول محلها.

وليس بالضرورة أيضاً الإقرار الصريح، والحديث المتكرر عن النصف الممتلئ، إذ يكفي الحديث عن النصف الفارغ، وتركيز الانتباه إليه، فالنصف الممتلئ هو منجز، أما الفارغ فهو ما يراد له الإنجاز والامتلاء، والتركيز عليه هو عامل شحن لدى القائمين والقادرين على الفعل، وعامل استفزاز ايضاً ليثبت الآخر مصداقيته، ورغبته، ونيّته بالفعل للسعي إلى الاكتمال، أو على الأقلّ زيادة نسبة الامتلاء في كأس لا تنظر المعارضة إلاّ إلى نسبة الفراغ فيها، وهو واجب المعارضة الوطنية، ووظيفتها.

بهذا المعنى لا يمنع أن يتحوّل معظم المواطنين إلى معارضين، مع تفاوت في نسبة الاعتراض، وليس ضرورياً أن ينتظموا في تيار أو حزب أو تنظيم، يكفيهم أن تكون عيونهم على الوطن، ويكفيهم الحرص على النهوض والتطور والارتقاء، كل ذلك يبرر لهم غضّ النظر عن نسبة الامتلاء، والتركيز على الفراغ. (فمن يرَ باطلاً فليقوّمه بعمله، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وإذا أردنا النهوض بوطننا فعلينا قراءة هذا الحديث الشريف بدءاً من آخره، فلنقوّم الأخطاء بقلوبنا وعقولنا أولاً، ثم بلساننا، ثم بعملنا. لنصل إلى الإيمان القوي، ولنصبح مؤمنين أقوياء، لأن (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).

وحين نتحدّث عن عقدة الخوف التي حُلّت أو كُسرت، فهذا يعني تراجع نسبة النفاق، فالوطني الحقيقي لا يخاف من رأي يطرحه، أو من عمل يقوم به إصلاحاً لحال وطنه. وعقدة الخوف تلك ما هي سوى السير على الخط الفاصل بين الممنوع والمسموح، سير يجعل المواطن مريباً ومرتاباً. فلماذا لا يمضي إلى المساحة الواسعة من المسموح، ويحاول الإصلاح منها؟ لماذا لا يكون معارضاً إيجابياً؟ أسئلة كثيرة يحقّ لنا أن نطرحها في غمرة هذا الدمار الذي يلفّ وطننا من أقصاه إلى أقصاه، يحق لنا أن نتساءل ونصرخ ونعترض ونحارب، إذا كان كل ذلك في خدمة وطن نحرص عليه ونحميه بماء القلب.

نحن على يقين من قرب انتهاء هذه الأزمة، وعلينا أن نفكر بما بعدها، كيف سيكون أداؤنا وسلوكنا؟ كيف سيكون اعتراضنا ورؤيتنا  للأمور؟ لن ننظر ابداً إلى النصف الممتلئ من الكأس، ولن نكون مطبّلين في أعراس السلاطين والأمراء، سنركّز محاور النظر والنقد والاعتراض على المساحة الفارغة، وربّما نبالغ في توصيفنا للأمور إلى أقصى الحدود، فالوطن وطننا، والكأس الممتلئة هي ما نريد، فليعذرنا أولو الأمر حين لا نرى إلاّ النصف الفارغ.

العدد 1105 - 01/5/2024