والعهدة.. على الراوي!

فصل المقال في الواقع والخيال وما بينهما من اتصال…

قد يشي مما تقدم من كلام، بعنوان لمحاضرة ما، أو لندوة بعينها ربما تتوسل مقاربة حركة الإبداع وتقنياته الفنية وقيمه الأدبية، على الرغم من وقوعه في فتنة السجع، لكنه على وجه الدقة يستبطن طريقة لجذب المتلقي، كما يقال في النشرات الإخبارية أو البرامج المثيرة: لا تذهب بعيداً، ابق معنا!

هو إذن عنوان افتراضي، جهر به هاجس عنيد نتيجة مكابدة فادحة، يعرفها حق المعرفة من تواضَعْنا على تسميتهم بعمال الكلمة، الذين يشقيهم الواقع ومحكياته وثراء خامات حكاياته، وخشية أن يصبحوا (نسّاخاً) فحسب، نراهم يمزجون ما تراه أعينهم بما تصطفيه الرؤية، ليوسم هذا المسعى بالتخييل الذي يمنح المخيلة شرط حرية، يتواتر فيها الترف والضرورة، لطالما اقترن الخيال بالحرية. وعند فريق من النقاد سيصبح الخيال سلطة، ولكن بغلالة شفيفة تخفف غلواء المباشرة، وعدوى اللقطات الفوتوغرافية التي غالباً ما يتهم بها على وجه التحديد القاصُّون صيادو اللحظات الخاطفة في مجرى الحياة، إذ يشبّه لمن يقف في أرض حكايات بعضهم على الأرجح أن الواقع قد استنفد على نحو ما، إذا ما رأى إسرافاً إلى حد المحازفة بالخيال فيما يكتبون. وثمة من يرى أن الواقع ذاته أصبح متخيلاً، فيذهب في استنطاقه والغوص في تفاصيله. فالواقع خيال، والخيال تأويل، ولك أن تتأمل نصوص الواقع وما قبله وما بعده.

وعلى حد زعم (هاجسي) يتصادى في محكيات الواقع خيال طليق، يكفي التجول ليس بقصد التنزه، في الحواري المكتظة، بل لئن تنتبه لما يقع على الأسماع من أصوات ذات إيقاعات متعددة ومختلفة، وما يميزها ليست الأصوات العالية وترنيماتها، لا سيما من تتسابق منها في وصف أسماء الفاكهة والخضار الطازجة، بل تلك الأصوات الخافتة المترعة بشغف وشجن ينتزع من المارة دهشة مباغتة والتفاتة مستمرة. بدا صوت صبية في ربيعها العشرين كعزف منفرد في جوقة الأصوات الصادحة بالمألوف واليومي، تحمل بانتباه وحذر شديدين رضيعة صامتة، يخيّل للناظر إليها أنها نائمة بعد نوبة بكاء، محكمة القماط، ولا يبدو منها سوى وجه شديد البياض ينبئ عن براءة آسرة. تحمل الصبية (رضيعتها) وتسير ببطء، وبصوت عذب تبدأ بترديد جمل بعينها، فهي لا تطلب مالاً لدواء أو غذاء أو كساء، كما هو المعتاد، بل تغني.. أجل تغني وبتدرُّج محسوب، فيما تبدي تجاهلاً بعدم الانتباه لمن يدسُّ في يدها القليل من المال!

تتابع سيرها لتبلغ نهاية الطريق، ومن ثم تعود من جديد، وكأننا بها تتحرك على خشبة مسرح مفتوح، مع فارق بسيط هو أن جمهورها لا يجلسون في مقاعد حمراء وثيرة، بل يتحركون حولها، بشيء من التواطؤ أو اللامبالاة، أو الدهشة غير أن ضحكة عالية مجلجلة لصاحب مخبز سياحي اعتاد رؤيتها، ضاعفت من دهشة المارة، حينما سمعوا: (لا تصدقوها.. إنها مجرد لعبة.. لعبة جميلة من تحملها بيديها). يا لخيالها، قال الهاجس مجدَّداً، ماذا لو كانت الطفلة حقيقية، ربما احتجنا إلى جرعة من الخيال لتأويل حكايتها، الصبية احتفظت بخيال يشبه كذبة تصدقها العيون ولا تصدقها الرؤية.. ليصبح الواقع ضرباً من الخيال، وفي تفاصيله اليومية يكمن ما لا يحصى من طرائد عجيبة غريبة.

ماذا لو صعد نيوتن إلى التفاحة، ولم ترتطم برأسه، أو لنقل ليعيد الخيال تأليفها في مرايا الإبداع.

العدد 1105 - 01/5/2024