دثّروني!

يُحاصرني البرد، يفتك بأوصالي، أسحب نجمة عابرة أشدها إلى صدري علّها تغذيني بالدفء.

ربااه!

العتمة الحالكة تأخذها بعيداً عن ملمس أصابعي، حتى هذه الغريبة العابرة فضائيَ التعس تأبى أن تشاطرني موسم برد فاجأني قبل أوان البرد، وحطّ فروعه المحمّلة بلظى الثلج على مفاصلي.

تأباني المسارات، ولا أجد في هذا الكون الشاسع غير عذابات تتلوّن كلما صارَعتها الخفافيش الغريبة، تأتي أسراباً، تبحث عن فروع صلبة تقيم عليها غزواتها الماحقة، ولا تجد وسط الفراغ الباعث سراب الصمت في كل ركن منه غير أطرافي البائسة.

دثروني أيها الباحثون عني في غياهب الأوراق المدفونة في معاجم اللغة.

منذ متى أرشف من كأس القدر متعتي العابرة؟كم كنت أحسبها باقية يوم يكتسي الهرم الأصيل بنثرات الثلج! لكنها عاندتني، وأبت أن تظلل شيبي بقليل من الفرح.

يومذاك أيها القدر الآتي على جناح الذاكرة الملفّحة بغربة الافتراض، أمسكتني لهفة، حسبتها تلك الباعثة ألقاً في نسيج البؤس العارم.

نَسَجت حولي خيوطاً ذهبية، وأترعتني شهد العسل بكأس من فضّة، وظللتني بالنجمات السابحات في فضاء ليس له آخر.

قالت: أحبكَ.. فانسفحت قوارير الجنون.!

كانت.. كما شكّلتها في واحة ضياء القمر، في ليلةٍ سافرت الغيوم إلى مدارات مجهولة، وبعثَتها أمامي شامخةً كالكرمل، باترة كسيف عربيّ في يد صامد في مخيم، صادقة كالوعود القديمة.

أصبحت سلوتي وصبوتي، معها تلمّست مساحات روحي، وفي ظلالها بدت وسامتي أكثر إشراقاً.

واستمرت، عبر الأيام التي التهمت حروفنا خمس وجبات في كل يوم، ترسم في خيالاتي ذلك الطيف الذي أبت مداركي إلا أن ترسمه وتشكّله صورة لها كيف تهوى رغباتي وخيالاتي، وكيف أشتهي.

لست أدري كيف فتح القدر كلّ الأبواب التي كانت موصدة أمام مجرد احتمال اللقاء بيننا.!

كان.. والتقينا.

أهدتني المقادير سكوناً في سحر عينيها المخبأتين وراء نظّارة سوداء تشي بخيالات سحر يبرق من ورائهما، حطّا بي قريراً على شاطئيهما، فأقمت.

أحرقتُ مراكبي، ومزّقت الأشرعة المسافرة، وقلت: هنا أقيم.

وجدتها أيها القدر المعاند بعد رحلة العمر الطويل، فأترعتُها صبوتي الدفينة في فراغ الأشياء، وبنيت فيها سكني، زيّنته بأوجاع روحي، ومهرته بعهدٍ مداده نبضي المشبع بالصدق.

قلت: هي البداية التي ما بعدها نهاية، هي الامتداد الأزلي لروحي، هي شاطئ النورس الأمين.

يا فرحة العمر الذي ما ذاق طعم الفرح، أقبلي على شقوتي فقد هدّني البحث، وأتعبني المسير المرّ، وهنا.. عندها.. بين يديها، في رفيف رعشات رموشها، في غياب الروح وراء إغفاءة عينين ما سجدتا إلا لي، وما وارفتا ظلال الأشياء إلا على وقع همساتي.

كنت، وشفتاي تسطران على جفنيها المتعبين عرابين اشتياقي، أساكن الدفء المتفلّت رغبة فيَّ.

قاسمتني الخطوة، والبسمة، والدمعة. فطبعتُ معها على كل معلمٍ شظيّة مني، وأبقيت على انغلاق الروح إليها باباً موارباً أبت إلا أن تشاطرني إبقاءه موارباً على تاريخ بنيته لبنة لبنة أصل علاماتي في مسيرة التعب.

اليوم.. كأن حبّات الرمل التي حسبتها متماسكة إلى حدّ التصلّب، تتفكك.

ويل روحي.. هل هي تتفكك حقيقة أم خوفي من معاودة الفقد هيأ لي هذا الجنون السرابي؟

كيف يمكن أن تشرق شمس وهي خارج هلالها؟

كيف يسطع القمر وصورتها غائبة عن مداراته؟

كيف تتنادى العصافير إذا فارقت أعشاشها الدفيئة.

هو البرد.. تراه يصعق خضرة الأشجار المتربّصة في ذرا الكرمل. وهل يُسكِتُ انسياب المغاليق في سيوف الرابضين في مخيمات الصمود؟

يصعقني البرد برجفاته المقيتة، فأبحث عن نجمات عبرن سماءها كي أتدثّر بها.

أبحث عني في أيقونات النشوة المديدة، فلا أجد غير رجوع الصدى يسخر من أحلامي.

أفتش عني في مطاويها، فلا أجد غير اللهاث الأحمق يباعد بيني وبين روحي.

هو البرد يا رفيقة أمنياتي، هو البرد بدأ ييبّس أناملي.. أصابعي، كفيّ، ذراعي، روحي.

فخذيني ذات موت إلى عينيك الذابلتين، واجعليني في مراياك.

واكتبي في سفر البقاء أنني كنتُ، وسأبقى ولو في حومة التلاشي أسكنُكِ، ويشهد التراب الذي سيذوّبني فيه، أنني عشت عمري أبحث عنك.

أحببتك حتى قبل أن يطالعني ذلك السحر الآتي معي الآن منكِ، إلى سكني القريب في برزخ الانتظار.

العدد 1105 - 01/5/2024