لو لم يموتوا!

كم من الذين غادروا هذه الدنيا تمنّوا -في لحظات احتضارهم- ألاّ يموتوا، وكم من الذين ما زالوا على قيد الحياة يطالبون بالموت، والموت ينأى! كم من الناس والكائنات يموتون قبل أوانهم، وكم منهم تطول حياتهم، فلا يزيدهم ذلك إلاّ تشبثاً بهذه الدنيا الفانية! كم من الأحياء يرون الموت مختصاً بغيرهم، ويستبعدونه عنهم، دون أدنى تفكير بأنه ملاقيهم!

ما من أحد في هذه الدنيا ينكر أن الموت قدر مكتوب، ولا مجال للهروب من طريقه، لكنهم حين يتأملون وجودهم لا يستذكرون الموت إلاّ لغيرهم، فيحزنون. وما من أحد أيضاً حين يخلو إلى نفسه إلاّ يملؤه الندم على أفعال ارتكبها في لحظات انبهار بجمال الدنيا، حينذاك لم يكن يزوره التفكير بانتهائها، ولو قيّض له أن يفكّر بما ستؤول نهايته إليه لما ارتكب شيئاً لا يرضي عقله وضميره.

لو أمكن للميتين أن يعودوا إلى الحياة ما كانوا سيفعلون؟ هل يتحولون نسّاكاً أو واعظين؟ أم أنهم سيعودون إلى حياتهم السابقة دون أية تحولات تذكر؟ وإذا عادوا فماذا سيخبروننا؟ بعض العقائد الدينية تؤكد أن الميت عائد لا شكّ، سيعود لا ليخبر، وإنما ليتعظ. فهناك خالق واحد، وهناك مخلوقات كثيرة، وعليها الخضوع للخالق الأوحد، القادر والرحيم، وبين القدرة والرحمة مساحات لا تحدّها حدود.

شيء من البلاهة تسيطر على كثير من الناس، بلاهة تفقدهم المقدرة على الرؤية الصحيحة. والبلاهة لا تكون بريئة في كل حالاتها، فقد تكون بلاهة مقصودة للضرر بالآخرين، وقد تكون أكثر شرّاً من ذلك. بلاهة تتولّد من نفاق وحقد وكراهية لكل من يمتلك رؤية لا تتوافق مع رؤيتهم، وسرعان ما تتحول إلى سلوك عدائي، مع الاحتفاظ بمساحة من الخبث تضمن لهم الرجوع حين يخسرون في المواجهة. أي نوع من الناس أولئك؟ وكيف سيواجهون الخالق في لحظة لا تنفعهم بلاهتهم في شيء؟

بين الإجرام والبراءة يتوزع الموتى، فالشهيد ميت بريء، والقاتل المقتول بفعله الإجرامي ميت مجرم. وكم من العقائد تسقط قيمة الشهادة على موتى لا يراهم أصحاب عقائد أخرى سوى مجرمين! كم من الناس يتسارعون للشهادة دفاعاً عن أوطانهم، وكم يتسارع آخرون إليها للقاء حوريات الجنة!

هذا الخليط المتناقض بين القيم كفيل بلحظة بلاهة أن يخرّب ما عمّره العقلاء، وأن ينسف ما توارثه البشر عبر حضارات تعاقبت لتجمّل هذه الدنيا، خليط يجعل من العقائد سلعاً قابلة للبيع والشراء، ولا ترى في الأوطان سوى أسواق لعرض البضائع. خليط يخلو من الإنسانية بمفهومها الإيجابي، ليحلّ محلها أكواماً من الوحشية المتراكمة على مدى بلاهات وبلاهات.

إذا كانت المفاهيم الإنسانية العامة مشتركة بين البشر كلهم فلماذا يختلفون حولها؟ هناك مفاهيم واضحة، ولا مجال للشك في صدقيتها، كحرمة القتل والسرقة وأذى الآخرين. وهي من أكثر المفاهيم اختلافاً حولها، على الرغم من وضوحها في الديانات السماوية التي طرحتها لتنظيم الحياة بين الناس. ويأتي بعض الناس ليستثمروها في تنظيم القتل والدمار لإرضاء بعض الصغار، وقد سيطروا على أصحاب العقول الصغرى، فزيّنوا لهم تلك المحرمات، لتصبح واجبات تقودهم إلى حورياتهم الموعودة، ولتصبح الجنة قاب قوسين أو أدنى من قتل بريء.

لو أن الذين ماتوا لم يموتوا بتلك الطرق الوحشية، لتساءلنا: هل كانت الدنيا ستصير أكثر بشاعة، أو أقلّ جمالاَ مما يراها القاتلون؟

العدد 1105 - 01/5/2024