مؤتمر الحوار مدعو لإزالتها شروخ الأزمة السورية تنتهك كيان الأسرة

لا شكّ أن الاصطفافات التي قامت عليها الأزمة السورية منذ يومها الأول (موالاة/ معارضة) قد أرخت بظلالها على معظم الأسر السورية بمختلف شرائحها ومستوياتها، حتى باتت تلك الأسرة ميداناً حامي الوطيس في كثير من الأحيان بين الأزواج كطرفين مختلفين من جهة، وبين الآباء والأولاد من جهة أخرى. وكذلك بين الإخوة أنفسهم الذين انقسموا أيضاً ما بين مؤيد ومعارض، حتى كادت المعارك الحقيقية تنشب بين تلك الأطراف داخل البيت الواحد، مما خلق توتراً دائماً محوّلاً تلك الواحة الوادعة إلى جحيم لا يُطاق بين مكوّنات هذه الأسرة والتي يمكن أن نراها على النحو التالي:

العلاقة بين الزوجين

أرخت الأزمة بثقلها على العلاقة بين الزوجين في العديد من الأُسر، فقد نشأت الخلافات بدايةً على المستوى السياسي، حتى وصلت إلى حدّ المهاترات اليومية لتشمل باقي نواحي تلك العلاقة، مما جعل النفور يطغى على كل ما بينهما وعلى جميع مسؤولياتهما المنوطة بهما داخل تلك الخلية. وقد خلق ذلك شروخاً لم تكن ظاهرة قبل الأزمة بالشكل الذي صارت عليه بعدها. إضافة إلى أن تلك الشروخ ذاتها اتسعت حتى وصلت إلى حدود الهجر أو ما يُسمى بالطلاق العاطفي، أو حتى الطلاق الفعلي، وهذا ما يوضح أحد أهم أسباب ارتفاع نسبة الطلاق بعد الأزمة إلى 24% حسب الإحصائيات الرسمية في سورية. وهذا أيضاً أرخى بثقله على الأولاد الذين تشتتوا ما بين الأبوين ومواقفهما المتباينة حيال ما يجري، في الوقت الذي كان يُفترض بهما أن يكونا البوصلة التي ترصد وتدقق مواقف وتحركات الأبناء فتبعدهم عن مسارات تضرُّ بمستقبلهم.

العلاقة بين الآباء والأبناء

طاولت الظروف ذاتها العلاقة بين الآباء كطرف والأبناء كطرف مقابل حتى باتت علاقةً تحكمها الخلافات الدائمة والمشاحنات التي غالباً ما تنتهي بالخصام في أفضل الأحوال، أو بالقطيعة والتهديد. وربما وصلت في بعض من الأحيان إلى حدّ الضرب من قبل الأهل أو طردهم للأبناء من البيت لما قد يجلبه بعضهم- برأي الأهل- من أضرار نتيجة مواقف قد تُلحق الأذى بالأسرة كلها، أو ربما تؤثّر سلباً على مستقبلهم الدراسي أو المهني أو الاجتماعي. إن هذا الوضع بشكل عام جعل القلق والوساوس سيّدا الموقف بالنسبة للآباء الذين أصبحوا حرّاساً دائمين على الأبناء يحصون تحركاتهم وهواتفهم وحتى علاقتهم برفاقهم أو زملائهم. مما ضيّق الخناق على الأبناء ودفعهم مرغمين لهجر البيت بشكل متواتر أو نهائي، وبالتالي يُصبح هؤلاء الأبناء لقمة سائغة في طريق أيّة انحرافات أو انجرافات تفرضها الظروف الراهنة في البلاد، ما قد يحرفهم عن مسارهم الطبيعي في الدراسة أو العمل، أو حتى في العلاقات الاجتماعية- الإنسانية التي تتطلبها الحياة بشكل عام، لاسيما في تلك الأزمة التي يعيشها المجتمع راضياً أو مرغماً.

العلاقة بين الإخوة أنفسهم

تعرّضت تلك العلاقة في غالب الأُسر إلى شروخ صار من العسير ردم الهوّة التي أحدثتها بين إخوة كانوا فيما مضى يتقاسمون الحياة بفرحها وحزنها، كما يتقاسمون لقمة العيش والهواء. فانقلب الحال بينهم إلى مشاحنات دائمة ومشاجرات مستمرة وصلت في كثير من الحالات إلى الضرب والعنف غير المسبوق في هذه الأُسر، وقد دفع ذلك بالبعض من الإخوة الضعاف النفوس إلى التهديد بالوشاية بإخوتهم الذين يخالفونهم الرأي حول ما يجري في البلاد. طبعاً هذا كله أمام أعين آباء باتوا مشتتين ما بين الأبناء وخلافاتهم، متحسرين على ما أصاب الأسرة من نزاعات ومهاترات عملت على تخريب أواصر العلاقة بين أفرادها بشكل عام. وفي أحيانٍ أخرى، بدل أن يتخذ الأبوان موقف الحكم الإيجابي بين الأبناء كي يُطفئا لظى النار المشتعلة بين الإخوة، فإنهما يقفان في صف أحد الطرفين، مما يزيد في تفاقم الوضع والحقد بين إخوة بسبب مواقف اعتبرها الأبناء تمييزية، ما عزز مشاعر مكبوتة لدى بعضهم كانت كامنة قبل الأزمة.

إن هذه الظروف والأوضاع التي ألمّت بالكثير الكثير من الأُسر السورية على امتداد مساحة الوطن، قد خلخلت كيان هذه الأُسر، وأحالتها إلى كيانات مهلهلة يتبعثر أفرادها بين ركام ما خلّفته الأزمة التي تعيشها البلاد، والتي طالت نيرانها الخلية الأساسية في الحياة، مما أحال المجتمع برمته إلى أفراد مهزومين أمام أحلامهم من جهة، ومشتتين أمام أواصر القربى والدم التي انهزمت أمام رياح عاتية لم يكن أيٌّ من أفراد الأسرة، ولا المجتمع مستعداً لاستقبالها أو مواجهتها لا نفسياً ولا ثقافياً ولا فكرياً. بمعنى أننا شعوباً وأفراداً لم نعتد الديمقراطية ولا الحرية القائمة على حق الاختلاف في الرأي والتفكير، ولا على التنوّع الذي يفرضه الواقع الذي نحيا، بل على العكس، نحن أفراد رُبّينا في جميع مناحي حياتنا على التبعية المطلقة التي فرضتها القيم الاجتماعية والدينية والسياسية، كما فرضتها نُظمنا التربوية في مؤسساتنا التعليمية بمختلف مراحلها، وكذلك فرضتها الأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها النظرية والفكرية. وهذا يتطلب من الجميع الآن، خاصة أننا نعيش أسوأ مرحلة في تاريخ بلادنا، إعادة النظر بعلاقاتنا الأسرية والاجتماعية والسياسية والدينية، ومحاولة التعامل مع الآخر المختلف معنا بآرائه ومعتقداته بمنظار مختلف عمّا نعيشه ونتعامل به الآن، ومن ثمّ إعادة النظر بما يجري على الأرض علّنا نتمكن من إنقاذ ما بقي لنا من أهل وأصدقاء ورفاق عشنا ونعيش معهم في بلد من أغنى بلدان العالم من حيث التنوّع الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي، ونصون ما بقي من وطنٍ اسمه سورية.

السوريون على موعد مع حوارهم الوطني الشامل، والذي سيضع ميثاقاً وطنياً يتضمن المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكيفية تحقيقها.. ونعتقد أن رفع مستوى الأسرة السورية في جميع المجالات الاجتماعية والتربوية والمادية، وإدماج الأسرة السورية في عملية إعادة الإعمار الشاملة، يُعد استحقاقاً هاماً أمام المتحاورين.

العدد 1105 - 01/5/2024