جماعة الإخوان… مسيرة الصعود هبوطاً (2)

عندما تحدث (البنّا) عن الوطن:

ولعل من حقي أن أسأل القارئ: هل تستطيع الإمساك بالزئبق؟ إن استطعت فسوف تستطيع أن تمسك بالموقف الحقيقي للجماعة من أي قضية تهم الوطن، وتهمك شخصياً. القول ونقيضه وهما معاً يبقيان لتستخدمهما الجماعة عند الحاجة.

هكذا كان الأمر منذ البداية.. وهكذا حتى عهد مرسي.. وحتى اليوم.

لكن البنّا مع ذلك لا يقدم برنامجاً سياسياً كاملاً لبلد يخوض معركة تحرر من الاستعمار، بل لعله قد تهرب كثيراً من تحديد أي موقف سياسي واضح من أي قضية قومية أو وطنية أو اجتماعية. وإذا ما سئل كأي زعيم سياسي عن برنامجه أجاب: (نحن مسلمون وكفى. ومنهاجنا منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى، وعقيدتنا مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى)! ثم هو لا يزيد الأمر تفصيلاً، فإذا أبدى البعض شكوكه حول إمكان العمل السياسي دون برنامج سياسي وطني متكامل اتهمه الشيخ بأنه (مريض القلب، سيئ الظن، فهو يطعن ويتجنى ويتلمس للبراءة العيب، وكلا الأمرين وبال على صاحبه وهلاك للمتصف به).

غير أن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ لا يمكن لرئيس جماعة سياسية أن يقتحم ميدان العمل السياسي معلناً أن الإسلام (طاعة وحكم ومصحف وسيف)، دون أن يدفع الجميع إلى التساؤل حول من الذي سيستعمل السيف؟ وضد من؟ ولعل التساؤلات بدت في محلها تماماً عندما استخدم السيف بالفعل أسلوباً في تعاملات الجماعة مع خصومها.

وإذا أردنا مثالاً آخر للتلاعب بالألفاظ والمواقف ومراكمة مناقضاتها جنباً إلى جنب، كي يُستخدم أي منها عند الضرورة، نقرأ للأستاذ البنا في (نحو النور): (لابد من جديد في هذه الأمة، هذا الجديد هو تغيير النظم المرقعة المهلهلة، التي لم تجنِ منها الأمة غير الانشقاق والفرقة، وهو تعديل الدستور المصري تعديلاً جوهرياً بحيث توحد فيه السلطات).

وفي رسالة المؤتمر الخامس يقول البنا: (إن من نصوص الدستور المصري ما يراه الإخوان المسلمون مبهماً وغامضاً ويدع مجالاً واسعاً للتأويل والتفسير، الذي تمليه الغايات والأهواء. فهي في حاجة إلى وضوح وإلى جديد وبيان. هذه واحدة، والثانية هي أن طريقة التنفيذ التي يطبق بها الدستور أثبتت التجارب فشلها، وجنت منها الأمة الأضرار لا المنافع. فهي في حاجة شديدة إلى تحديد، وإلى تعديل يحقق المقصود ويفي بالغاية. ولا بد أن تكون فينا الشجاعة الكافية لمواجهة الأخطاء، والعمل على تعديلها، أما الأمثلة التفصيلية والأدلة الوافية، ووصف طرائق العلاج والإصلاح ففي رسالة خاصة إن شاء الله).

لكن البنا سرعان ما يتراجع، بعد أن تلقَّى تأنيباً وتحذيراً ممن كان يخشاهم، ويخشى أي تصادم معهم، أي من رجال القصر الملكي. ومن ثم يعود متراجعاً: (إن الدستور بروحه وأهدافه العامة لا يتناقض مع القرآن من حيث الشورى، وتقرير سلطة الأمة وكفالة الحريات، وإن ما يحتاج إلى تعديل منه يمكن أن يعدل بالطريقة التي رسمها الدستور ذاته).

بل هو يواصل تراجعه إلى درجة تثير الدهشة: (ما كان لجماعة الإخوان المسلمين أن تنكر الاحترام الواجب للدستور، بوصفه نظام الحكم المقرر في مصر، ولا أن تحاول الطعن فيه، أو إثارة الناس ضده، وحضهم على كراهيته، ما كان لها أن تفعل ذلك، وهي جماعة مؤمنة مخلصة تعلم أن إهاجة العامة ثورة، وأن الثورة فتنة، وأن الفتنة في النار).

لماذا كل هذه القعقعة إذن؟ ولماذا الحديث عن الجهاد وعن النظام الإسلامي، وعن التغيير الجذري، إذا كان النظام القائم، سواء في عهد جلالة الملك فاروق (صديق الإخوان)، أو في عهد جمال عبد الناصر (عدوهم)، مقبولاً من جانبهم، ولا ينكرون (الاحترام الواجب له، باعتباره نظام الحكم المقرر)؟!

فقد تحسب البنا من التصادم المفتوح مع السلطة، وخشي من الثورة التي قد تنقلب ضده، فأوقع نفسه بين شقَّيْ الرحى، يريد ولا يريد، يطالب بنظام إسلامي وبالجهاد بحد السيف من أجل تحقيقه، ثم يقبل بما هو قائم، ولا يحاول الطعن فيه، أو إثارة الناس ضده.

لكننا نخطئ إذا تصورنا أن البنا كان سياسياً يتلاعب بالموقف ونقيضه وحسب، فقد قدم متسللاً ودون أن يلقي ضوءاً كثيفاً على الكلمات، محدداً بدائل لكل شيء. صحيح أنه يقولها عابراً ودون ضجيج، لكنه يعنيها في حقيقة الأمر.

ففي مقابل دستور 23 قال: القرآن دستورنا.

وفي مقابل الزعامة المهيبة لمصطفى النحاس، أو حتى سلطة الملك فاروق، قال: الرسول زعيمنا.

وفي مواجهة الوطن والسعي لاستقلاله كأرض لأبنائه المصريين، رفع شعار: الخلافة الإسلامية. وبدلاً من مصر وطنه ومن مواطنيه المصريين، يتحدث عن الوطن الإسلامي قائلاً (إنه يسمو عن الحدود الجغرافية والوطنية وعلاقات الدم، إلى وطنية المبادئ الإسلامية).

وفي مقابل النضال المشترك مع الشعوب العربية الشقيقة، والتعايش السلمي مع من لا يبدأ بالعدوان علينا، قال: (إن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب، وتلك الأيام نداولها بين الناس).

وفي مواجهة تصاعد النضال الاجتماعي والطبقي في مصر في بداية الأربعينيات، وتصاعد حدة الإضرابات العمالية، يقول البنا: (أما موقف الإسلام من الأغنياء وأصحاب الرساميل فليس بيننا، وبينهم إلا أداء الزكاة)، ويقول: (إن الله يحب الغنيَّ الشاكر، ولا يحب الفقير الناكر).

وكان ذلك كله حديثاً عن المسار الأول، الذي رسمه البنا لجماعته، وهو تراكم المواقف المتناقضة دون التخلص من أي منها. أما المسار الثاني فيمكن تلخيصه في عبارة موجزة هي (لعبة المصالح المشتركة مع الطاغوت). والطاغوت لغة هو الشيطان أو الحاكم المتجبر، وعند الإخوان هو الآخر أي آخر حتى ولو كان حليفاً أو رفيق درب.

فقد رسم حسن البنا مساراً جديداً في السياسة المصرية، وهو التحالف مع أي شخص أو جماعة أو دولة مهما كانت حدة العداء معها، هذا إذا ما حقق ذلك التحالف أو التقارب أو الولاء مصلحة مباشرة له.

وإذ يتردد بعض رجاله إزاء مثل هذا التحالف، وإزاء نتائجه، التي قد تنقلب عليهم، فإنه يطمئنهم بأن الله معهم وسوف يحميهم من تآمر الطاغوت، مردداً: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين). لكن التجارب المتوالية أثبتت أن هذه اللعبة غير الأخلاقية لا تلبث في كل مرة أن تنقلب وبالاً على الجماعة. ذلك أنه في كل الحالات خرجت الجماعة من هذه اللعبة مثخنة بالجراح. قد يطفو في الأفق في البداية بعض نجاح، غير أن النتيجة النهائية لكل مباريات أو محاولات اللعب مع الطاغوت، والتلاعب به كانت الهزيمة أو ما تسميه أدبيات الجماعة: المحنة. فالله لا ينصر المراوغين والمتلاعبين، الذين يقفون من أجل مصلحة ذاتية مع الأعداء، سواء أعداء فكرتهم أم أعداء الوطن، محليين كانوا أم أجانب.

وعلى أي حال يمكننا أن نقدم بعضاً من لعبة المصالح المشتركة مع الطاغوت.

فعلى مدى الفترة من 1936 إلى 1948 تحالف البنا مع رجال القصر الملكي، ثم انقلب عليهم. ومع الوفد، ثم انقلب عليه. ومع إسماعيل صدقي ثم انقلب عليه. ومع حزبَيْ الأقلية السعديين والأحرار الدستوريين، ثم انقلب عليهما. وكان قتل النقراشي، ومحاولة قتل إبراهيم عبد الهادي.

كما فعلوا بالنهج الملتوي ذاته، بعد ذلك، ففي 1952 تحالفوا مع عبد الناصر، وفي 1954 حاولوا اغتياله، ثم حاولوا اغتياله مرة أخرى في 1956. وتحالفوا مع السادات وتواطؤوا عليه. وتهادنوا مع مبارك وانقلبوا عليه، ثم المشير وفعلوها معه. إنها سياسة ثابتة لا تتغير ولا تثمر إلا ثماراً مريرة، لكنهم لا يتعلمون، فهكذا أمرهم البنا، وهم بأوامره إلى الأبد ملتزمون، وفي أيام مرسى تحالفوا مع الولايات المتحدة، ثم هم يهاجمونها الآن.

ولن نستهلك مساحة كبيرة من الكتابة عن لعبة المصالح المشتركة بين البنا والقصر الملكي، الذي كان يمثل الطاغوت المعادي للشعب، وتلخصت فيه كل مقومات العداء للوطن، والخضوع للاحتلال، وخدمة كبار الملاك على حساب جماهير الشعب. ذلك أن علاقة البنا بالقصر، وإصراره على العمل في خدمته أصبحت محلاً لكتابات كثيرة بحيث لا تحتاج إلى بحث جديد. وهو على كل حال ظل حريصاً على تأكيده مبايعة الملك، بحيث دفع المتظاهرين من أعضاء الجماعة، الذين كان يجري حشدهم كلما احتاج القصر إلى دعم في مواجهة جماهير الوفد تحت الزعامة المهيبة للنحاس، ليتجهوا إلى ساحة قصر عابدين (مقر الملك) هاتفين: (الله مع الملك)، مؤكدين (نهبك بيعتنا على كتاب الله وسنة رسوله).

لكن لعبة المصالح المشتركة مع القصر انتهت نهاية مأسوية – فرغم عمل متواصل في خدمة القصر الملكي منذ عام 1930 حتى ،1948 تحولت الصداقة إلى عداء مشتعل انتهى بحل الجماعة، ومقتل البنا نفسه، لكن ثمة وجهاً آخر لهذه اللعبة هو العلاقات بالقوى الاستعمارية.

ولنبدأ بأكثر القصص إثارة، وهي علاقة حسن البنا بالقوى الفاشية والنازية إبان الحرب العالمية الثانية، ولأن كل شيء عند حسن البنا يجب أن يكتسي برداء إسلامي حتى يمكن للجماهير البسيطة أن تبلعه، فإن تقلبات المواقف السياسية، ومناوراتها كانت تكتسي هي أيضاً برداء الإسلام، وحتى العلاقات المريبة بأعداء الوطن كانت كذلك.

وفي مجلة (النذير) قبل أن تخرج بعيداً عن يديه زف حسن البنا لقرائه ما يبرر علاقته بالنازيين والفاشيست قائلاً: (ذكرت بعض الصحف أن إيطاليا وألمانيا تفكران في اعتناق الإسلام، وقررت إيطاليا تدريس اللغة العربية في مدارسها الثانوية بصفة رسمية وإجبارية. ومن قبل سمعنا تفكير اليابان في الإسلام، وقد تجددت هذه الشائعة في هذه الأيام، ولا شك أن هذه الدول الثلاث قد وضعت في برنامجها التقرب التام إلى العالم الإسلامي، والتودد إلى العرب والمسلمين، وقدمت لذلك مقدمات كبناء المساجد ودعوة الشباب العربي إلى المدن والعواصم عندهم). ثم (وهذا استعداد طيب تعلنه هذه الدول، إذا أضفنا إليه موقف الدول المسيحية منها من الكنيسة، وخروجها على تعاليمها، وموقف اليابان من ديانتها الوثنية وتبرمها من طقوسها، وأضفنا إلى ذلك كله أن هذه الدول إنما تعجبها القوة والكرامة والفتوة والسيادة، وأن هذه هي شعائر الإسلام)، ولسنا بحاجة إلى القول بأن كل هذه المعلومات كاذبة تماماً، ولا أصل لها. وبعد سلسلة الأكاذيب هذه نجد البنا يضيف، وكأنما ينسب هذا الفضل الوهمي إلى نفسه: (لقد كتب الإخوان المسلمون إلى ملوك المسلمين وأمرائهم وعلمائهم وحكامهم بوجوب التبليغ رسمياً إلى هذه الأمم باسم الإسلام).

ولمزيد من حبك هذه الأكذوبة يكتب الأستاذ البنا – في العدد ذاته – رسالة إلى شيخ الجامع الأزهر، يدعوه فيها إلى تبليغ ألمانيا وإيطاليا واليابان بالإسلام، وضرورة قيامهم بدراسة تعاليم الإسلام دراسة علمية صحيحة، مع إمدادهم بالعلماء لشرح مفهوم الإسلام، وأن تمنح الجماعة حق التبشير بالإسلام، وحق إقامة المؤسسات الإسلامية، ثم كانت الشائعة التي تناثرت في كل أرجاء مصر عن انتماء هتلر نفسه إلى الإسلام، وأنه تسمى سراً باسم (الحاج محمد هتلر).

وهذه الأكذوبة التي تفوق كل ما يمكن أن يتصوره عاقل يمكن اتخاذها نموذجاً للمدى الذي يمكن أن تصل إليه عملية تسييس الدين، أو طلاء المواقف السياسية الخاطئة، بل المعادية لمصالح الوطن والدين، بطلاء ديني زائف، كي تكتسي الخيانة ببريق ديني.

ففيم كان ذلك كله؟ تناثرت شائعات بأن البنا لم يعد يكتفي بالعلاقة مع المقربين من ألمانيا من رجال السياسة المصرية، من أمثال علي ماهر وعزيز المصري، وإنما أقام بنفسه ولنفسه جسوراً مع الألمان أمدته بدعم مالي كبير يمكنه أن يفسر الإمكانات المالية، التي انهالت فجأة على البنا، والتي كان يغطيها بالدعوة لفتح باب التبرع. ثم يعلن بعد ذلك بأيام قليلة أن التبرعات فاضت عن المطلوب، وقد فعلها الأستاذ البنا مرات عديدة، منها الدعوة لجمع 8500 جنيه لشراء مقر للجماعة، ثم بعدها بيومين أعلن أن المبلغ المطلوب قد جرت تغطيته.

 

مركز أبحاث الماركسية واليسار

العدد 1107 - 22/5/2024