ردم الهوة بين المثقف والسياسي

مشكلة التباين بين المثقف والسياسي ليست جديدة، ولها إشكالات متعددة ومركبة، ولكنها طفت على السطح وبدأ تداولها يزداد مع ما يسمى (الربيع العربي)، خاصة في البلاد العربية، وازدادت حدتها إثر تعقيد الأزمة في سورية، وبدأ تحميل اللوم والمسؤولية، وتبادل الاتهامات بين المثقفين والسياسيين، إلى درجة النعت بالعمالة والتخوين، وأفرزت مواقف وممارسات وصلت إلى مرتبة الحيرة والخروج عن المنطق والمألوف.. مثال ذلك ليس من السهل فهم حقيقة مواقف وممارسات مثقف ماركسي، متجذر بالدعوة للتعددية والديمقراطية والحرية والعلمانية، ينشد مبادئه من دعاة الطائفية والمتشددين من التكفيريين، أو من آل سعود أو آل ثاني أو حتى من الغرب الإمبريالي، كما أنه من خارج التصور والفهم الدعوة للاعتداء العسكري على بلده بذريعة إسقاط النظام.. وبهذا الهروب إلى الأمام يكون قد خسر نفسه ووطنه، وخسرنا إبداعه.

وقد يكون بالمقابل مواقف من السياسيين والأنظمة في جوهرها لا تختلف عن مواقف وممارسات مثل هذا المثقف.

إن مثل هذه النماذج لا يمكن تعميمها على كلا الفريقين، لأن في ذلك مجافاة للحقيقة والواقع.. وإذا توقفنا عند طبيعة المثقفين، فلا يمكن وضعهم في سلة واحدة، فهناك الساكن، والمتحرك، والمنغلق، والمنفتح، والمستبد، والديمقراطي، ومثقف النخبة، ومثقف الجمهور.

وربما يسأل سائل عن دور المثقف الساكن والمثقف المتحرك.. بكل بساطة، الساكن لا دور له في مجتمعه، بينما المتحرك ينهض بدوره في مجتمعه، وكذلك مثقف النخبة يعيش بعيداً عن الناس ويتحدث بخطاب القلة المحدود في مجتمعه، وعلى العكس من ذلك، فإن مثقف الجمهور يحتك مع الناس ويعايش متطلباتهم ويتحدث بخطابهم.. وربما يسأل سائل: كيف يكون مثقف مستبداً وآخر ديمقراطياً؟ بكل بساطة كل مثقف يرفض الرأي الآخر ويستخدم لغة الرفض والإقصاء والقمع فهو مستبد.. أما الديمقراطي فهو المنادي بالحرية والعدالة والتعددية والتسامح.

ويحلو للبعض تسمية المثقف المستبد بمثقف السلطة، وهذا تعميم لا يمكن الركون له، فقد تكون السلطة ديمقراطية وفيها مثقف عكس ذلك.

لست بصدد التحامل على المثقف أكثر من السياسي أو على السياسي أكثر من المثقف، ولكن ما أود التوقف عنده هو بعض الظواهر في مجتمعنا ومن تحديد المسؤول عن التصدي لها.. فإن كانت سلبية فيجب محاربتها ومكافحتها، وإن كانت إيجابية يجب دعمها وتطويرها.

فلو عدنا إلى تعريف الثقافة، لوجدنا تعريفاً لها أعمق وأشمل من غيره، لبايلور في كتابه (الثقافة البدائية) في عام 1881 وفيه دمج الحضارة مع الثقافة:

(الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع).

وفي الحقيقة فإن الثقافة تبنى على النقد، لذلك نجد ماركس يقول: ليس النقد هوى في الرأس، بل رأس الهوى. ومن مقولات هيغل: (الإنسان لا يولد حراً، وإنما يأتي للعالم مع إمكانية أن يصير حراً).

ويعد مصطلح الثقافة أو المثقف حديثاً عند العرب، ولم ترد الثقافة في القرآن الكريم أو في السنة الشريفة، على عكس السياسة التي وردت بتعابير مختلفة تدل عليها في القرآن، ووردت أكثر وضوحاً في السنة، وعُبر عنها بحزم في عهد الخلفاء.. لذلك من الطبيعي أن توجد الإشكالية بين الثقافة والسياسة، لأن السياسة عرفت بوصفها علماً وفكراً، فهناك من عرّف علم السياسة بأنه (مجموعة المبادئ والقواعد التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو بالدولة أو الظاهرة).

ويعرفه ديفد إيستون (هو دراسة عملية التوزيع السلطوي للقيم المختلفة من أجل المجتمع).

أما الفكر السياسي فيشمل تعريفه البحث الحر الاستدلالي في ظاهرة السلطة السياسية في المجتمع، أو مجموعة الآراء والأفكار السياسية التي طرحها المفكرون عبر التاريخ من منطلق تأثرهم بالبيئة وبالمرحلة التي يعيشون فيها. ونجد الفكر الشيوعي يميل إلى دراسة العلاقات بين الطبقات الاجتماعية، بينما يميل (الواقعيون) إلى اعتبارها فن الممكن.

وأعتقد أن الأهم هو تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أسس منطقية، ولم يعد من الممكن ضمان استقلالية الثقافة عن السياسة، أو فصل المعرفة عن الأيديولوجية، علماً أن الكثيرين من المهتمين والمثقفين يحاولون الفصل بينهما، بل يعتبرون هذا الفصل لمصلحة الطرفين والمجتمع.. وهذا محط إشكال كبير.

وهناك إشكالية كبيرة تتمركز في بلادنا العربية، وانتقلت إلى بعض البلدان الإسلامية، وهي الانطلاق في تقييم الظواهر استناداً إلى أسس دينية، وهذا يخرج السياسة والثقافة من العقلانية ويدخلها إلى حيز عاطفي (إيماني)، مما يحصرهما في نطاق ضيق بدلاً من نطاقهما الرحب والواسع.. علماً أن المجتمع الحي قائم على التفاعل مع الواقع، ومادام هناك إطار قانوني ودستوري حاكم للسلوك السياسي وحتى الثقافي، فلا ضير أبداً من إتاحة التعبير عن الرأي بحرية ومهما كان دون تخوف أو تخويف. وبسبب فكر الاستبداد والقمع والتكفير وغيرها من الأسباب الأكثر وجاهة التي يراها القارئ، لا نبالغ إذا قلنا إن المثقفين الذين امتهنوا العمل السياسي فعلاً هم قليلون جداً، وربما يعذر المثقف وحتى السياسي في العزوف والانكفاء عن السياسة وعن الفكر الناقد خوفاً من البطش والتصفية الجسدية والفكرية والاجتماعية، وشاعت ثقافة المحرمات الثلاثة (الجنس والدين والسياسة) و(الحيطان لها آذان).. إلخ.. إلا أن الفكر السليم المتقد والناقد والطموح لا يمكن أن يخنقه الجهل والظلام، فقد وجدنا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تمرد الكثير من المثقفين والسياسيين على السواء، ورغم اعتزازهم بالموروث التراثي الذي كان سائداً، فقد وقفوا إلى جانب مسيرة التطور ورفعوا لواء التجديد، وهدم العادات والتقاليد البالية والأفكار الجامدة، والتصرفات التي لا يقرها دين أو عقل أو منطق. من أمثال شبلي شميل ومن بعده سلامة موسى اللذين دعوا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في إطار الاشتراكية، وقاسم أمين نادى بتحرير المرأة، ومحمد عبده اهتم بتطوير الفكر الديني، والكواكبي شدد على تغيير نظام الحكم وتحدث عن طبائع الاستبداد، ومن بعدهم طه حسين، والزهاوي، ونزار قباني وغيرهم ممن ساهموا في تجديد الأدب والفن والشعر.

وهذا يدل على أن المثقف والسياسي يمكنه التمرد على دعوات الظلام رغم اتهامهم، بالكفر والزندقة وغيرها من التسميات التي نسمعها الآن في كل يوم، ورغم الانكسارات التي أصابت المثقف والسياسي أو (حرب المواقع) كما يقول غرامشي، وذلك في حالة تشكل الصراع على هوية شعب مهدد في كيانه يمكن أن يشكل المثقف هيمنة بديلة عن هيمنة نظام ديكتاتوري.. لكن المهام ستكون أصعب في ظل ارتفاع نسبة الأمية، والعزوف عن اقتناء الكتب، والاعتماد على فضائيات النفط مرجعاً ثقافاًي ومعلوماتياً، ومأزق الغرب وصراعه المرير من أجل تسيّد العالم، واختلاقه للعدو البديل للشيوعية، وتشخيصه للإسلام مناهضاً للغرب دون التفريق بين قوى متطرفة ومتعصبة وبين تعاليم الإسلام السمحة.. والإعلام في هذه المرحلة له الدور الأكبر في بناء الدولة والمجتمع معاً.. كل ذلك يؤشر إلى ازدياد الصراع، في ظل أزمة فكرية مركبة من حيث صراع الأوليات وأزمة الانتماء، كل ذلك سينعكس على الأنظمة والأحزاب والمجتمع بشكل عام.

ولا يمكننا أن ننكر أن السياسي في بلادنا تفوق على المثقف في استغلال بعض الأحزاب والنقابات والجمعيات المثقفين، بوصفه واجهة وقاطرة للعمل السياسي في ظرف محدد، بينما يعتقد البعض أن العكس هو الصحيح، يجب أن يكون المثقف هو القاطرة للسياسي، وهذا هو السبب حسب اعتقادهم، للكوارث والهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، وهو رأي وجيه لا يمكن نكرانه إلا أن الأكثر وجاهة هو التوازن بين الطرفين، والعمل معاً، لأن المجتمع بحاجة إليهما مجتمعين ومتعاونين عبر الحوار الجاد والهادف.

ولا يمكننا أن ننكر أن خطأ تاريخياً كبيراً ارتكب في بلادنا بهيمنة السياسي على الثقافي، حتى إن الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، في أحد أعماله النظرية، حول الثقافة والسياسة، انتقد هذه الهيمنة.

وأعتقد أنه لو جرى حوار حر بين الطرفين لما وصلت بلادنا إلى الحالة التي نحن فيها، وبتشخيص أدق نجد أن معظم المثقفين في القرن العشرين هم من اليساريين، والعديد منهم انحاز إلى المعارضة، وترافق ذلك مع ضعف منظمات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية، مما أدى إلى وصف القرار السياسي، مهما كان إيجابياً، بأنه يأتي من الأعلى، وليس عبر النقاش والحوار وتنوع الأفكار، وهذا مما يجعله موضوع صراع في المجتمع رغم الحلول المؤسساتية أو القانونية، لأن المجتمع ينظر إليه كحل فوقي، وبالتالي فهو مرفوض أو مثار جدل ونقاش.. وهذا عرقل تطوير المجتمع، وهي حسب ما نعتقد، مهمة السياسي والمثقف معاً.. ونرى أنه لا معنى لسعي السياسي للهيمنة على الثقافة، ولا لابتعاد المثقف عن السياسي، وركونه للهيمنة، أو الاعتماد الجازم بأن السياسي بحاجة إلى أذرع ثقافية تساعده، ومن باب التشفي والانتقام رفض مد الذراع لأن المجتمع بحاجة إلى الذراعين معاً لمقاومة ما يهدد المجتمع في هويته ومكتسباته الحداثية والتحررية من زحف (وهابي، نصراوي، داعشي، قاعدي)، وثقافة الموت والكراهية واستعداء الآخر وتكفيره، ومن عنف ممنهج متعمد باسم الدين. يقول ابن رشد: (شر الظلم ظلم رجال الدين)، لذلك وقع المثقفون والسياسيون في حيرة، فإما الطغيان وإما العدوان، والموقف السليم كما نعتقد هو عدم نسيان الطغيان والتحدث عن العدوان، وعدم نسيان العدوان عند التحدث عن الطغيان، وهذا ما يمثله خط وموقف حزبنا الشيوعي السوري الموحد.. ولكن هذا الموقف والخط يلقى نقداً من الطرفين اللذين يستسهلان اتخاذ المواقف بين الأسود والأبيض.

ومن أخطر المقولات التي يروجها البعض أن بلادنا تحتاج إلى الحقب التاريخية التي احتاجت إليها أوربا في القرون الوسطى لتخرج من المواجهة بانتصار فلسفة الفكر، وهذا يتطلب قروناً من الصراع. وأجزم بأن مثل هذا الرأي مدسوس، وفي أحسن الأحوال غير بريء، لأننا في القرن الحادي والعشرين، وما أنجزته البشرية من تطوير وتقدم في سائر المجالات يقينا من المرور بهذه الحقب، خاصة إذا جسرنا الهوة بين المثقف والسياسي.

العدد 1105 - 01/5/2024