ربيع الأحلام المؤجلة

كأننا، ونحن المتعبون على حافة الجرح، نستبصر الأشياء، فنراها أكثر منا حزناً وتعباً وعتاباً، وأكثر منا إيغالاً في الصمت، والندى بالطراوة والاخضرار، غدا في ربيع الدم العربي العابر أشبه بقرص الشمس الدامي، يحمل بين جنبيه لوعة اللون الذي كان يوحي بحمرة شقائق النعمان، وعذوبة الورد والأرجوان. وبدا الآن أشبه بالحبر القاني الذي ينزف الكتابة بدموية آثمة! نحن متعبون، والأشجار متعبة، والأنهار متعبة، والوجوه، على جنون وحشتها وصمتها، أشبه في ذهولها المقيت الموجع بتلك البقايا التي تستأنس عتمة الشاهدات بها عندما تخرج من قبورها، لتشارك كائنات الليل كوابيس أحلامها، في زمن أصبحت فيه الأحلام مؤجلة على وسائد احترقت بكوابيس الدم والرصاص!

أين منا الخامس عشر من أيار؟! يوم وحَّدَنا جنونُ الشوق إلى الجولان وفلسطين، ووحدتنا الخطوة باتجاه الجنوب السليب، ووحدتنا البسمة الدامعة أن خلع الشباب قمصانهم، وتمددوا على الأسلاك ليعبر العائدون؟! والتراب يزحف معنا باتجاه الملحمة الخالدة! بجانبي، وأنا أنزل قمة عين التينة إلى مجدل شمس امرأة تقود أمامها عربة ابنها المعوق، وامرأة تحمل طفلها، وهي في أول أيام الولادة، امرأتان تتشبثان بقميصي، الآلاف المؤلفة تتدافع باتجاه الجولان وفلسطين بعشق مجنون لا مثيل له في التاريخ! امرأتان رائعتان لن أنساهما أبداً، تستحلفان الله أن أصحبهما معي في رحلة العودة/ الحلم!

في ذاك المشهد الخالد ظهر عُشاق الأوطان على حقيقتهم، وبان مجد الأمة فوق ترابها، وكشف الخامس عشر من أيار في ذاك المشهد الخالد عشاق الأوطان على حقيقتهم، وبان مجد الأمة فوق ترابها، وكشف الخامس عشر من أيار عن حالة نادرة من نفير الشعوب، استفرد بها شعب هذه الأرض. حتى إن الجبال والهضاب والسفوح هتفت باسم شعبنا العظيم، فارتدَّ صدى الهتاف عالياً في سماوات الله الشاسعة:

لا جباه غير هذه الجباه، ولا رجال إلا هؤلاء الرجال، ولا طير أبابيل غير هؤلاء الشباب!

هذا كان في آخر حلم أخضر تكتحل به عيوناً، في زمان لم تمضِ عليه سنتان من عمره المديد، ولكن الحلم الأسود، القاني الذي نحيا على دمويته الآثمة الآن، ولشدة أهواله، وسواد عتمته القاتمة، جعلنا نشعر أن ما يفصل بيننا وبين آخر حلم أخضر عشناه سنوات عجاف قاتمة تكاد تكون دهراً من الكوابيس الملعونة، لا حدود لعتمتها،ولا مدى لمشاهدها المفزعة، تقارب في لهاثها الدامي مدى من الحادثات المروعة بدأها الإنسان/ الوحش على الأرض قبل ملايين السنين أيام قابيل وهابيل، واستكملها في أواسط الدهر هولاكو ونيرون. وها نحن البسطاء/ الرائعون/ العاطفيون جداً نستكمل، في آخر الدهر، تلك الملحمة الدموية الآثمة، والتي حفرتها السكين الآثمة في كتاب الزمان، وما زالت تلك السكين الغادرة/ الآثمة تفعل فعلها في ذلك الكتاب الدموي القاني، حتى بتنا نلعن تلك اللحظة المجنونة التي أثقلتنا بضراوة ما ورثتنا، فإذا بنا نعشق الأحمر/ القاني، على الرغم من جنون حبنا للنهار والضياء والياسمين، وننفر من أعماقنا من الورد الجوري، رغم عشقنا المجنون له، لأنه بلون الدم القاني، الذي أتخمنا بأوجاعه!

العدد 1104 - 24/4/2024